/ نورما أبو زيد /
جبل جليدي، هو ذاك الذي تكوّن في أعقاب انتخابات 2018 النيابية، بين شريكي الاتفاق الرئاسي، ميشال عون وسعد الحريري، والأسباب خارجية.
في انتخابات 2018، كان سعد الحريري خارجاً لتوّه من معتقله السعودي، والبحصة لا تزال عالقة في زلعومه، ومع ذلك، تصرّف خلال تشكيله لحكومة ما بعد الانتخابات، كمن “عنّت” على رأسه سكرة “14 آذار”.
لم يكد يمرّ قطوع الحكومة، حتى أتى قطوع “الثورة”. بين ليلة 17 تشرين وضحاها، تحوّل سعد الحريري إلى “جحا”.. وجحا يصدّق كلامه. فعلى الرغم من أشهر العسل التي تلت الاتفاق الرئاسي، قرّر الحريري فجأة بعد انتخابات 2018 النيابية، أنّ الطريق بين بعبدا و”بيت الوسط” لا سالكة ولا آمنة. عامان ونيّف عوّل خلالهما الحريري على تحوّلات إقليمية تسمح له أن يعيد وصل ما انقطع، ولكن الإشارة الخارجية التي أرادها خضراء كانت حمراء. لم تكتفِ الرياض بزرع إشارة حمراء على طريق رياض الصلح، بل زرعت إشارة ثانية على طريق وادي أبو جميل حيث “بيت الوسط”، وإشارتا الرياض هاتان كانتا بإشارة خضراء أميركية، وأخرى صفراء فرنسية.
في الفترة الفاصلة ما بين الانتظار والاعتزال، أُمطر عهد عون بوابل من الاتهامات، مصدرها الحريري وفريقه السياسي والإعلامي، وبينهما جوقة شتّامين من “فرقتي” الأزرق والبرتقالي، تعمل على طريقة “القوالة”. كلّ طلعة زجل من هنا، تقابلها طلعة زجل من هناك.
يُنقل عن أحد صقور “8 آذار” قوله إنّ الحريري غطّى عيونه بضباب سياسي في تلك الفترة، جعله يرى الأمور في غير نصابها. فبحسب السياسي إياه، واشنطن والرياض أرادتا من الحريري التصويب على “حزب الله”، ولكن “يللي ما في لمراتو بيشتم حماتو”.
لم يُغيّر الحريري سلوكه، فاتُخذ القرار بتغييره.. هكذا يفسّر السياسي المذكور سقوط الحريري ذات 24 كانون ثاني. إسقاط الحريري تُرجم إسقاطاً لتمثيل واسع من طائفة كبرى، سيّما وأنّ الحريري الإبن ورث هذا التمثيل بعيد اغتيال والده في العام 2005، ولم ينبت له من ينازعه على الميراث، طيلة أعوامه الـ 17 في “بيت اياس”.
ما تعيشه الطائفة السنيّة اليوم، هو تكرار لما عاشه المسيحيون بعد الطائف: تغييب الزعامة، وافتقار إلى السند الخارجي. يقول سليلٌ لأحد البيوتات السياسية، رسم لنفسه مساراً وسطياً، إنّه حتى لو اعتلت شخصية سنية من حجم رفيق الحريري أو جمال عبد الناصر سدّة الرئاسة الثالثة اليوم، لن تستطيع أن تحجز مساحة مريحة لها على مساحة الجغرافيا السياسية اللبنانية، دون سند إقليمي.
في ذروة التبعثر والتشتّت، قرّر الرئيس ميشال عون، بزيارته إلى دار الفتوى، تسخين الجليد، وفعل، وقد نجح في تحويله إلى ماء سائل. لفتة رئاسية في لحظة مصيرية لدى الطائفة السنيّة، أذابت جبل الجليد الذي تكوّن بسرعة مطّردة، مذ قرّر الأميركي بالنيابة عن سعد الحريري، استقالته من رئاسة الحكومة، تحت وطأة ما سُمي ثورة، وترك عهد عون في مهب التكاليف التي لا تُفضي إلى تأليف.
الزيارة لها دلالات كثيرة. ففي حين يمدّ سمير جعجع يده “على” الطائفة السنيّة، يمدّ ميشال عون يده “إلى” الطائفة السنيّة. وفي الوقت الذي يكثر فيه الحديث عن تسوية مسيحية ـ شيعية، يحرص عون على طمأنة أعلى مرجعية روحية سنيّة، من خلال تأكيده بأنّ “الجناح المكسور” يمنع “التحليق”، وأنّ جناحاً واحداً لا يكفي للطيران.
أحد الضباط الذين واكبوا الرئيس عون في مسيرته العسكرية يختصر المشهد بالقول: المعدن الأصيل.. لا يتغيّر وإن ألقيته في العراء!