| يوسف فارس |
في شارع غزة القديم، تحوّل الطريق الذي يربط محافظة شمال غزة بالأحياء الشرقية لمدينة غزة، التفاح والدرج والشجاعية، والوحيد الذي يسلكه سكان شمالي القطاع للوصول إلى المناطق الغربية من المدينة – بسبب الوضع الأمني الصعب الذي تعايشه الأحياء الغربية التي تحوي الطرق المباشرة -، طوال الأيام الماضية، إلى نقطة عبور لمئات الأسر، التي قررت العودة إلى الأحياء التي انسحبت منها قوات الاحتلال أخيراً. إلى بيت لاهيا وبيت حانون والشيخ رضوان والعلمي وتل الزعتر والسكة، وحتى الصفطاوي والتوام، قرر الأهالي، بعد أكثر من ثلاثة شهور من النزوح، أن يخوضوا المغامرة الصفرية.
«لا شيء نخسره، نعلم أن منازلنا مدمرة، ولكن خيمة على ركام البيت، أشرف بمليون مرة من حياة النزوح في مراكز الإيواء»، تقول الحاجة سهيلة الصافي، في حديث إلى «الأخبار». وتضيف الحاجة، وهي تجلس على عربة يجرّها حمار، رفقة 10 من أفراد عائلتها، وقد تكدّست حولها الأغطية والملابس: «ما ضل طاقة ليقهرونا أكثر، وما بقي شيء نخاف عليه، حتى العمر بيد ربنا مش بإيد نتنياهو».
أما أبو محمود عقل، فإلى حي تل الزعتر يحزم أمتعته، بعد أن قضى نحو شهرين في مبنى الصناعة التابع لـ«وكالة غوث وتشغيل اللاجئين» (الأونروا) غربي مدينة غزة. ورغم أنّ الرمايات المدفعية لا تنقطع عن المنطقة التي ينوي الذهاب إليها، فإنه لا يجد بداً من العودة. يقول الرجل، وهو يحمل على ظهره شنطة كبيرة تعلوها الأغطية: «راجعين، مش بس لأننا تعبنا من حياة النزوح، ولكن لأننا نسكن منطقة طرفية في شمال غزة، والبقاء فيها مقاومة لمخططات التهجير والاقتلاع. اليوم المقاومة قامت بدورها، وأجا دورنا نثبت في بيوتنا رغم الظروف الصعبة».
في تل الزعتر، أتت العملية البرية على شبكة الكهرباء وخطوط الصرف الصحي والمياه بشكل كامل، فضلاً عن أن شوارع الحي أضحت بحاجة إلى لاعب «سيرك» ليستطيع السير فيها. هناك، سيضطر من اختار العودة، ليقطع مسافة ساعتين مشياً على الأقدام في كل صباح، حتى يحصل على حاجته من المياه. وهذه الأخيرة يستخدمها الأهالي رغم ملوحتها العالية، للنظافة والشرب والطهي. فضلاً عن ذلك، تسود الحي الذي يقع شرق مخيم جباليا، والذي يتميز بموقعه الإستراتيجي المهمّ لارتفاعه الملحوظ عن منسوب الأحياء المحيطة به، عند ساعات المساء، موجة حادة من الوحشة: لا تيار كهربائياً، ولا مصدر إضاءة واحداً يكسر حدة الظلام، فيما يتسبّب خلوّ تل الزعتر من الكتلة الأكبر من ساكنيه، في مضاعفة أصوات القصف المدفعي الذي ينشط مع حلول الظلام.
ورغم ما تقدّم، يزداد توافد الأهالي إلى الحي يوماً بعد آخر؛ إذ ثمّة ما هو أهم من سهولة الحياة أو صعوبتها. يقول أبو علاء، هو والد لثلاثة شهداء، هُدم بيته وأربعة من بيوت أقاربه، في حديثه إلى «الأخبار»: «اليوم رجعنا على تل الزعتر، وبنمشي في نص الشارع حتى تصورنا طائرة الاستطلاع، أنا فخور بإني ساكن بخيمة بتدخلها مية الشتا، فخور إني بقضي كل يومي وأنا بدور على مية وحطب، فخور إني عايش هالمعاناة كلها، لأنو هالإشي كله بغيظ الإسرائيلي. إلي فكرنا رح نشرد من شمال غزة بمجرد ما قال روحوا على الجنوب، إحنا بنهزمو اليوم ببقاءنا رغم الخوف والظروف الصعبة».
في الشارع، يدور جدل كبير حول مستقبل الأهالي الذين غادروا شمال القطاع إلى جنوبه. «أشباح الهجرة الأولى، تدور في ذهني، قالولنا وقتها أسبوعين وبنرجع وظلينا 80 سنة»، تقول أم صابر الرشايدة. وتضيف في حديثها إلى «الأخبار»: «النكبة معشعشة في مخي، عشان هيك ما طلعت، وعشان هيك رجعت على حي السكة، رغم إنو القذائف بتقع حولنا طول النهار والليل».