| جورج علم |
وصلت الرسالة، وكانت الخلاصة في السطر الأخير: “ماذا عن اليوم التالي؟”.
الجواب عند المقاومة حول شكل الرد، ومكانه، وزمانه. إنما السطر الأخير يتناول الجنوب بما هو عليه الآن، وبما يفترض أن يكون عليه غداً عندما تهدأ غبار المعارك في غزّة.
وكان “اليوم التالي في الجنوب” في صلب المحادثات التي أجراها وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، والرئيس الجديد لهيئة أركان الجيوش الأميركيّة المشتركة تشارلز براون خلال زيارتهما الى تل أبيب قبل أسبوعين، وإجتماعاتهما مع مجلس قيادة الحرب، ورئاسة أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي.
في حينه جرى التوافق حول “تحولات” عدة، من بينها:
• بدء المرحلة الثالثة من الحرب، بعد انسحاب إسرائيلي تكتيكي من شمال غزّة.
• إستهداف قادة “حماس” بضربات نوعيّة تجنّب المدنييّن.
• عدم توسيع جبهات المواجهة.
وفرد الطرفان الخرائط، والصور الملتقطة من الجو لجغرافية الجنوب، ودفتر اليوميات، وحددا مسار تغيير الأمر الواقع. لم يأتِ الوفد العسكري الأميركي الرفيع للإستطلاع، إنما لبحث آلية التنفيذ. سبق له أن درس طلباً إسرائيليّاً ملحّاً تمحور حول نقاط أربع:
1 ـ ضرورة تنفيذ القرار 1701 من الجانب اللبناني. (الإيجابيّة التي لاحظها الأميركي، أنها المرّة الأولى التي تعترف فيها “إسرائيل” بالقرار رسميّاً، وتطالب بتنفيذه… ولو بطريقة آحاديّة الجانب).
2 ـ تأمين عودة المستوطنين الى المستوطنات المنتشرة على طول الحدود مع لبنان، بضمانات أمنيّة مطمئنة.
3 ـ استحداث منطقة عازلة على طول “الخط الأزرق” خالية من السلاح، وبإشراف الأمم المتحدة.
4 ـ توفير الأمن، وفق خطّة منسّقة ما بين الجيش اللبناني وقوات “اليونيفيل”، برعاية أمميّة، وإشراف أميركي.
وبرّرت تل أبيب طلبها ـ في حينه – بأنه الجواب الرسمي على إلحاح واشنطن بعدم إستدراج لبنان الى حرب مفتوحة، ومنع تحويله الى “غزّة ثانيّة”.
لقد وصلت رسالتها المفخخة إنطلاقا من هذه الخلفيات. وما تناهى الى بيروت أن “ضعيفين لا يصنعا قوّة”.
مجلس الأمن الدولي المنقسم على نفسه منذ إندلاع الحرب في أوكرانيا، مروراً بأذربيجان وإقليم “ناغورني كاراباخ”، إلى الشرق الأوسط، وحرب غزّة. إنه في إجازة طويلة، ومديدة، طالما أن الدول الخمس الكبرى صاحبة حق النقض “الفيتو” منقسمة إلى محورين متواجهين حول غالبيّة الملفات الساخنة في المنطقة، والعالم.
والضعيف الثاني، هو لبنان الذي يتكىء على حجتين:
الأولى ـ إن تنفيذ القرار من مسؤوليّة المجتمع الدولي، “اليونيفيل” بالتعاون مع الجيش. فالقرار دولي، وقد انتدب مجلس الأمن قوة دولية للسهر على حسن سير التنفيذ، ولبنان الرسمي قام بما يمكن القيام به، ولا يمكن تحميله ما لا قدرة له على إحتماله.
الثانية ـ إن “إسرائيل” هي المسؤولة عن عدم التنفيذ. خروقاتها الجوّية، والبريّة، والبحريّة للسيادة اللبنانية موثّقة لدى الأمم المتحدة، وهي تعدّ بالمئات، فضلاً عن الشكاوى الرسميّة إلى الأمانة العامة للمنظمة الدوليّة، ومجلس الأمن، والتي لم تلق أي حراك رادع!
والجديد الذي طرأ بعد “تفاهمات” الوفد العسكري الأميركي في تل أبيب، يختصر بالآتي:
1 ـ دخول الضاحية أرض المعركة، وانضمامها الى جبهة الجنوب، بعد الرسالة الإسرائيليّة المفخخة.
2 ـ تنشيط القنوات الدبلوماسيّة، وهناك حركة وفود وموفدين أمام بوابة العاصمة اللبنانية إيذاناً بالدخول، لبحث “مواصفات اليوم التالي في الجنوب”.
3 ـ ربط تنفيذ القرار الدولي بالتسوية الكبرى، كجزء منها، وتوسيع قاعدة المشاركة من “التحالف الدولي” في البحر الأحمر، والذي يضمّ 22 دولة لغاية اليوم، إلى عديد الدول المشاركة في قوات “اليونيفيل” في الجنوب.
4 ـ إن مسار “اليوم التالي” في غزة، لن يقتصر على القطاع ومستقبله، بل سيشمل كل الملفات الساخنة، وأبرزها إسقاط العقوبات الأميركيّة ـ الدوليّة على إيران، وهندسة دورها في الشرق الأوسط الجديد.
5 ـ إقتناع “قوى الضغط” الدوليّة بأن الأمر الواقع راهناً في الجنوب يستمدّ قوته من فراغين: الفراغ في مؤسسات الدولة اللبنانيّة. والفراغ على مستوى الدور العربي الذي يقتصر، لغاية الآن، على تقديم “الشاش والدواء الأحمر” طوال حرب غزّة، فيما التطبيع صامد ومستمر. يقابله “محور الممانعة” الصامد بمواجهته، والواضح بمطالبه، وشروطه، وأهدافه.
6 ـ إنسحاب حاملة الطائرات الأميركيّة من البحر الأحمر إنطوت على رسالة، بأن لا تصعيد في الخليج، ولا رغبة في حرب إقليميّة، كونها ستكون مكلفة للجميع، وأن ما يجري من تصعيد يصبّ في خانة تحسين شروط التفاوض، وأن “الورشة الدبلوماسيّة” ناشطة على قدم وساق لإقناع “إسرائيل” أولاً “باليوم التالي” في غزّة، وجنوب لبنان، وخريطة الطريق التي ستعتمد بعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار، والتي يفترض أن تشمل مستقبل غزّة، ومستقبل القضيّة الفلسطينيّة، والجنوب، ودور إيران في المنطقة..
ويتعاطى الأميركي و”الإسرائيلي” راهناً مع القرار 1701 بدرس الإحتمالات، والإنعكاسات: هل يفترض تنفيذه ضمن “الصفقة المتكاملة”.. أم يجب القيام بـ”عملية جراحية” سريعة، ومضمونة النتائج؟
وبمعزل عن متى ينفّذ القرار؟ وكيف؟ هناك قناعة خلاصتها أن تنفيذه يشكّل مدخلاً حتميّاً لحلّ الأزمة الداخليّة، وتنظيف لبنان من الفراغ، والعفن السياسي المزمن…