/هيام القصيفي /
إعلان الفاتيكان السماح بمباركة زواج المثليّين يأخذ في لبنان طابعاً مختلفاً في ضوء تجربة الكنائس المحليّة مع رعاياها، ونظرة الطوائف الإسلامية الرافضة كليّاً
الإعلان الذي أصدره الفاتيكان حول مباركة أزواج مثليّين كان منتظراً إلى حدّ كبير، بعد أول دورة للسينودوس شهدت نقاشاً وانقساماً حول رؤية الكنيسة لزواج المثليّين. وبسبب الجدل القائم منذ سنوات، استبق البابا فرنسيس الدورة الثانية للسينودوس، بموافقته على إعلان مجمع عقيدة الإيمان، والذي تراوح التعامل معه بين ترحيب مطلق كخطوة أولى نحو تكريس زواج المثليّين، ورافض له في شكل تام.إضاءة وسائل الإعلام الغربية والمراكز الدينية المتخصّصة تناولت في شكل أساسي فهم حيثيّات الإعلان، وما الذي دفع البابا إلى خطوته، في ظل انقسام حادّ بين صقور الكنيسة وحمائمها، ولا سيّما أنّ لدى المحافظين شكوكاً كثيرة في التغييرات الجذرية التي يسعى إليها البابا، سواء أفي ما يتعلّق بدور المرأة في الكنيسة أم زواج رجال الدين.
نصّ القرار على سلسلة تدابير (وتفسيرات لاهوتية) يفترض على الكاهن، أو أيّ كان من المعنيّين، الأخذ بها حكماً، مع تأكيد الكرسي الرسولي المتكرّر أنّ المباركة لا تعني سرّ الزواج. مع ذلك، عُدّ القرار انتصاراً لمجتمع المثليّين الذي يبدي جزء منه تعلّقاً بالكنيسة الكاثوليكية، ويحرص على ممارسة شعائرها. ولم يتوقّف المرحّبون عند حرص الفاتيكان على تمييزه عن أيّ مباركة لزواج مثلي. وفي الدول التي تبدي انفتاحاً حيال مجتمع المثليّين، لم يكن القرار مفاجئاً، لأنّ الفاتيكان كان قد طرح هذا النقاش في جلسات السينودوس الأخير، تلبيةً لرغبة البابا، وانسجاماً مع تطلّعات أساقفة أوروبيّين وأميركيّين منفتحين على نقاش جديد لموضوع مشاركة المثليّين في كنيستهم.
لكن الأمر في لبنان مختلف، لأنّ للإعلان تداعيات تتعلّق بمواقف الطوائف الأخرى، وهذا ما عبّر عنه المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان، أول من أمس، بردّه العنيف على الفاتيكان، رفضاً مطلقاً لأي مقاربة لموضوع المثليّين. أضف إلى ذلك، الخلاف الداخلي في الكنيسة المارونية، وفي الكنائس التي تتبع الفاتيكان، حول هذا الإعلان، مع وجود قسم كبير من المحافظين الرافضين لمثل هذه الخطوة. وقد كانت بكركي، إلى وقت قصير مضى، جزءاً من حملة محاربة «الشذوذ الجنسي»، رغم أنّ الكلمة مرفوضة إنسانياً وقانونياً، واستقبلت في آب الماضي رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزراء، في لقاء تشاوري طرح فيه مطارنة تناول الكتب المدرسية موضوع «الشذوذ»، مطالبين بضرورة التعامل مع الأمر بجدية. واستناداً إلى أحداث شهدتها مناطق عدّة ضدّ تجمّعات مثلية، يصبح إعلان الفاتيكان مثار تساؤل عن كيفية تعامل منظمات أصولية، مسيحية وإسلامية، مع أي تطبيق كنسي للإعلان الفاتيكاني، وكيف سيترجم ذلك في لبنان مدنياً، وكذلك أمنياً مع ملاحقة بعض الأجهزة الأمنية المثليّين تحت أي عنوان.
بحسب مصادر كنسية عدة، ثمّة مسلّمات وملاحظات لا تتعلّق فقط بالنظرة إلى الكنيسة على أنّها حالة متقدّمة في موقفها من المثليّين، في وجه الحالة المحافظة التقليدية:
أولاً، إنّ الكنائس المعنية بإعلان الفاتيكان تدرس النص قبل إعطاء رأي صريح وعلنيّ يصدر عن الكنائس نفسها. لكن العناوين الأولى تقول إنّ الإعلان الفاتيكاني «إعلان» وليس «قراراً»، وهو تدبير إجرائيّ وليس عقيدةً إيمانية، ما يعني أنّه غير ملزم للكنائس لتطبيقه. وبما أنه إعلان وتوجيه، على أهميته، تبقى الحرية لرجال الكنيسة للالتزام به لجهة إعطاء البركة أو عدمها. وهذا يفسح المجال أمام الكنائس لتقديم تفسيرات له. فالكنيسة في لبنان مسؤولة أمام رعاياها ومجتمعها، وما يسري في دول غربية لا يمكن تطبيقه في لبنان بالضرورة. ولا يشكّل عدم الالتزام بالإعلان مخالفة لانتماء الكنيسة المحلية إلى الكنيسة الجامعة، لأنّ النص في ذاته أعطى حرية العمل فيه، إضافة إلى أنّ الإعلان ليس عقيدةً تلتزم بها الكنائس من صلب إيمانها. علماً أنّ هناك دوائر كنسية سبق أن بدأت، انسجاماً مع ما كان مطروحاً في السينودوس، درس واقع التعامل مع المثليّين في الكنيسة.
ثانياً، إنّ النص اعترف للمرة الأولى بالثنائي المثلي، ولكنّه حدّد في الوقت نفسه سلسلة شروط ومبادىء للبركة التي ستعطى لهما. فالبركة لا تشمل رتباً مقدّسة، ولا طقوساً ليتورجية، وليست احتفالا عامّاً، ولا تمتّ بصلة إلى العرس بمعناه الكنسي والاحتفالي. والأكيد أنّ هناك خشية كنسية من «لبننة» الإعلان، بلجوء البعض إليه من أجل الاحتفالية العامة، فما صدر، وهنا يأتي دور الكاهن، يمنع أيّ تخطٍّ لحدود ما رسمه البابا، احتفاليةً ولباساً وكلاماً. والنص واضح لجهة الاعتراف بالواقع والحفاظ على معنى الزواج بين امرأة ورجل، من دون أن يعمد إلى الترويج للحالة المثلية وتشريعها، بل القبول بها ضمن إطار الكنيسة.
ثالثاً، هدف الإعلان المحافظة على أبناء الكنيسة في كنيستهم، أي طمأنة الجميع، وهو ما أكده البابا في لقاء الشبيبة الأخير في البرتغال، بأن الله «محبة للجميع من دون استثناء». وقد صدر النص، في ضوء مراجعات طويلة ونقاشات، مع أبناء الكنيسة المثليين الذين لا يريدون الانفكاك عنها ويصرّون على الحفاظ على تعاليمها والالتزام بأسرارها، ولم يصدر عشوائياً بمعنى تخطّي عامل الانتماء إلى الكنيسة من أجل تكريس حالة اجتماعية بالمطلق. والاحتفال بالبركة يعني حصراً أنّ الكاهن يطلب البركة من الرب للثنائي ليعيشا حياة أفضل، ولا يعطيهما بركته كسرّ من أسرار الكنيسة.
من الأكيد أنّ الكنيسة، والكنائس عموماً، ستكون من الآن وصاعداً مسؤولةً أمام مجتمعها المتنوّع عن تقديم إجابات واضحة عن الإعلان الفاتيكاني وكيفية التعامل معه. والأمر نفسه سيكون مطلوباً في تعامل الطوائف الأخرى التي، لها رأي مخالف جذرياً لموقف الفاتيكان، فلا تُضاف مشكلة جديدة إلى التباينات الطائفية والمذهبية في لبنان.