| جورج علم |
إنه المؤتمن ـ ربما الأخير ـ على وحدة الأرض والشعب والمؤسسات.
إنه “البطريرك” الأخير الذي يحفظ للموارنة موقعهم في هرميّة الدولة والمؤسسات.
الرئيس نبيه برّي، ليس الإسم، بل الرمز الذي قرأ كتاب التجربة اللبنانية من السطر الأول حتى الأخير. كانت له محطات، وبصمات، لكن في كلّ الأحوال والظروف، إحترم فرادة هذه التجربة الغنيّة بكيمياء الثقافات، والتي أكسبت هذا الكيان نكهة خاصة في دنيا العرب، والشرق الأوسط.
وينطلق الكلام نحو هذا “المنقذ” من خلفيات عدّة أبرزها:
• إن هذه المنطقة الحيويّة من العالم تستلقي حاليّاً على المشرحة الأميركيّة ـ الإيرانيّة، بحضور كوكبة من الإختصاصيين المهتمين، بينهم الروسي، والصيني، والتركي، والإسرائيلي، والأوروبي القابع على الضفّة الأخرى من المتوسط… وتخضع لعمليّة جراحيّة كبرى، قد تُستأصَل كيانات، وتتغيّر معالم حدود، فيما لبنان يتسوّل على رصيف الفراغ، تحاصره مجموعة من الأسئلة المصيريّة، هل يكون إحدى جوائز الترضية لهذا المحور، أو ذاك، في ظلّ غياب الضمانات الكبرى التي تحفظ له كيانيّته وخصوصياته؟!
• إن الموفدين الدوليّين مرحّب بهم، كونهم يتركون انطباعاً بأن هذا البلد غير متروك. بعضهم يأتي لتفقد مصالحه، والعمل على تأمين إستمراريتها بإنتظار زمن الحصاد، وتوزيع الغلال. بعضهم الآخر يأتي بحثاً عن دور، مستفيداً من كثرة الأضواء، ذو الضجيج الإعلامي، خصوصاً إذا كان من حملة الحقائب الخضراء. وثالث يأتي بمهمة ساعي البريد لتبليغ رسائل، وإملاءات محددة من المراجع العليا، إلى المرجعيات المحليّة المقطورة. والخلاصة أن كل هذا الحراك الذي بدأ بوتيرة عاليّة منذ الرابع من آب 2020 تاريخ إنفجار مرفأ بيروت، ولغاية الآن، لم يسمن، ولم يغن عن جوع!
• جرف “طوفان الأقصى” لبنان نحو منزلق مصيريّ خطير، لا عودة منه إلاّ بصحوة وطنيّة تدفع بالقيادات نحو طاولة حوار، من دون شروط مسبقة، للتفاهم حول كيفيّة تطبيق إتفاق الطائف، نصّاً وروحاً، لإنقاذ ما تبقى، وتحييد هذا الكيان عن طاولة الشطرنج، والنأي به عن سوق المزايدات، والرهانات، وجوائز الترضيّة… أو – وهنا مكمن القلق الكبير – الإستمرار في العبث، بإنتظار “التسوية الكبرى” في المنطقة، لمعرفة ماذا سيترك لهذا اللبنان. أو بكلام آخر، أيّ لبنان؟ وأي دور سيترك له في “الشرق الأوسط الجديد”؟!
والمقلق أن الإنتظار سيطول حتماً قبل أن تلوح بوادر الحلول في الأفق. والمقلق أكثر أن لبنان لا يقوى على الإنتظار. لا يملك مقومات الصمود. بيدره فارغ، خوابيه جافة. حنطته إلتهمها جراد الفساد. ساحاته تضيق بالوافدين الطارئين. وحدته موضع تساؤل. ديمومته عند مفترق المنزلقات الكبرى. لم يبقَ في الساح إلاّ حامل الأختام والمفاتيح، إليه تلتفت الأنظار. نحوه تندفع المشاعر القلقة برجاء واحد. أقدم، قبل فوات الأوان. بادر قبل أن يسقط الهيكل.
حجته أنه بادر، وهو محق، لكن “الأجلاف” رفضوا. طغيانهم مستمر. مصالحهم مؤمنة. قلاعهم محصّنة، والمصفّقون كثر… فلمَ العجلة؟!
وضع “الأجلاف” الموارنة أمام هجرتين: هجرة من الدولة، ومؤسساتها، بفضل كيدياتهم، وأنانياتهم، ومصالحهم الخاصة التي تتقدم على المصلحة العامة. وهجرة قسريّة. بيوت فارغة، وحارات تسكنها الوحشة، ويألف قرميدها البوم. وشباب يغادر على سخط، وقرف، وضيق حال، مدفوعاً نحو غربة لا عودة منها.
يعرف هذا “البطريرك” الميثاقي الإستثنائي الأخير، بأن مصير لبنان من مصير المسيحيّين، ومصير المسيحيّين ـ وتحديداً الموارنة – من مصير لبنان. ولأنه يعرف، عليه أن يقدم لإنقاذ الوحدة، والصيغة والكيان قبل فوات الأوان. إنه “حلقة الوصل” الأخيرة، قبل أن تتفكّك سائر الحلقات. إنه القادر على إستنباط الحلول والمخارج قبل أن يرتفع المدّ وتغرق السفينة. ولا تقاس المقدرة الوطنية بالتماهي مع الحدث، بل بصنع الحدث. ومن له، يُعطى ويُزاد!