/ جورج علم /
وقف الرئيس رفيق الحريري شامخا أمام منصّة القصر في 20 تشرين الأول 2004، وقال كلمته: “أستودع الله سبحانه وتعالى هذا البلد الحبيب لبنان وشعبه الطيب…”، وكان الزلزال الكبير الذي أودى بالثوابت والمرتكزات التي قام عليها الاستقرار والازدهار.
في 24 كانون الثاني 2022 يقف حامل إرثه السياسي، والمؤتمن على مشروعه الإنقاذي، على شرفة الوطن، ليكرر العبارة عينها، تاركاً القلق يحفر عميقاً في وجدان وطن ينخر في عموده الفقري مأزق جديد أفتك عريكة من المأزق السابق الذي دحرته دماء ذكيّة، وإرادة فولاذيّة خلعت يومها معاطف الفئوية، ووقفت وقفة عزّ تحت الراية الوطنيّة.
ما أعلنه سعد الحريري أمس، ومن الشرفة المطلّة على ساحة الشهداء، حيث الضريح، كان نتيجة حتمية لتخلّ دولي ـ إقليمي فاقع عن الوطن الذي كان، قبل التفاهم على الوطن الذي سيكون.
منذ انتفاضة 17 تشرين، انعطف لبنان عمليّاً، وبقوة، إلى محور له حسابات تاريخيّة، وفقد المناعة والقدرة على المواجهة نتيجة إنكفاءات منها:
- الإصرار الأميركي منذ إدارة الرئيس بارك أوباما على ترسيم خارطة طريق استراتيجيّة مع إيران. الإتفاق حول البرنامج النووي كان مجرد محطة. وحاول الرئيس دونالد ترامب تحسين دفتر الشروط، لكنه لم يكن ملمّاً بدبلوماسيّة حياكة السجّاد. يعود الرئيس جو بايدن إلى فيينا لوضع العربة أمام الحصان، لكن بظروف صعبة، ومكلفة، بعدما أوشك الإيرانيون على الدخول الى النادي النووي.
- الإنسحاب الأميركي المتدرّج والممنهج من الشرق الأوسط. بعد افغانستان، هناك العراق، وربما سوريا، وتبقى الصورة ضبابية في الخليج بانتظار ما ستؤول اليه مفاوضات فيينا.
- فشل مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تجاه لبنان، وفشله في تمكين سعد الحريري من أن يرأس حكومة قادرة على وضع مبادرته موضع التنفيذ.
- إنكفاء الدور السعودي – الخليجي منذ تشرين الثاني 2017، عندما أعلن الحريري إستقالة حكومته من الرياض، من دون الدخول في الأسباب، والتقاطعات السياسيّة ـ الأمنية ـ الإقتصادية، الإقليميّة ـ المحليّة.
- عجز جامعة الدول العربية، التي تستضيف القاهرة مقرّها، عن توفير مظلة وازنة لحماية لبنان “العربي”، الذي حماه جمال عبد الناصر يوماً من أعباء الوحدة المصريّة ـ السوريّة.
يشكّل موقف الحريري خلاصة لهذه الإنكفاءات، وهو لم يقدم إلاّ بعض شعور عارم بدأ مع بداية الدخول الأميركي الى العراق تحت يافطة نشر الحريّة، والديمقراطيّة، وحقوق الإنسان، وإذ به يترك العراق مضرجا بدماء أبنائه. وبدأ مع بداية الإنتفاضة في سوريا، وكان ما كان الى حيث وصل الحال على ما هو عليه الآن. وبدأ مع التسوية التي أدت الى إنتخاب ميشال عون رئيسا للجمهوريّة، ولا داعي للقول أكثر مما قاله الحريري فيها، وقد اعترف بأنه كان الأكثر تشظيّاً من نبالها النهمة الجارحة.
المفارقة أن المبادرة الإنقاذية التي حملها وزير الخارجية الكويتي الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح الى بيروت، تزامنت مع مشهدية بيت الوسط المقلقة. والقلق هذا منبعه القرار الكبير المتخذ في عواصم “المجموعة الدوليّة لدعم لبنان”، ومن عناوينه:
- التخلّي عن الإعتدال في لبنان، أو بكلام أوضح، ضرب مسار الإعتدال. وإذا كانت الولايات المتحدة، وفرنسا، والإتحاد الأوروبي، لا يملكون الإرادة على حماية ودعم خط الإعتدال، وتحديداً عند طائفة شكّلت العمود الفقري لقيام دولة لبنان الكبير، فهذا يعني الكثير، ويطرح سؤالاً عميقاً، حول البدائل، والخيارات!
- بعد أن أنهى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش زيارته الى بيروت، تحدث الى صحيفة عربيّة عن “فيل في الغرفة”. والخوف أن يصبح الفيل هو سيد الغرفة، وأن يكون لبنان جائزة ترضية في مفاوضات فيينا!
- جاء رئيس الدبلوماسيّة الكويتية حاملاً مبادرة، ويطالب اللبنانيين الأخذ بها للإمساك بدفة الإنقاذ. فاته أن اللبنانيين عاجزون نتيجة الخلل الكبير في موازين القوى على ساحته، ولو كان بوسعهم، لما استقال سعد الحريري من الخط الوسطي ـ التوفيقي الذي كان يمثّله… ويبقى أمل أن تشكّل هذه المبادرة حجر الأساس لبناء مؤتمر دولي خاص بلبنان.
لقد إستعان سعد الحريري بـ”المأثرة” التي قالها والده قبل 18 عاماً، يوم “إستودع الله سبحانه وتعالى هذا البلد الحبيب لبنان، وشعبه الطيب”… بعدها وقع الزلزال المدمّر… فهل لبنان على فوهة زلزال؟
دبلوماسي أوروبي يقول: “بعدما رفض اللبنانيون الحوار، رفضوا تحمّل المسؤولية في صياغة لبنان الغد، وتركوا المهمّة لحاضنة دوليّة، أو مؤتمر دولي… لكن هذا لا يأتي إلا نتيجة زلزال!