| فاتن الحاج – زينب حمود |
بينما يخوض طلاب أكبر الجامعات العريقة في الغرب معارك لإظهار مواقفهم المستنكرة للوحشية الإسرائيلية، وتتمّ ملاحقتهم من قبل لوبيات صهيونية موجودة في حكومات الغرب وفي إدارات هذه المؤسسات، يبدو أن في بيروت من أعجبه الأمر، ويريد تنفيذه في عاصمة المقاومة ضد الاحتلاليْن الأميركي والإسرائيلي. وقد ظهر ذلك بوضوح في سلوك الجامعة الأميركية في بيروت وإدارة البعثة العلمانية الفرنسية، ما يستلزم ليس تدخّل الجهات الحكومية المعنية، بل حركة طالبيّة وأكاديمية وشعبية ترفض هذا المنطق الخادم للعدو.
«إنت وقفتي مع حدا هتف لمحمد الضيف (القائد العام لكتائب القسّام). إنت مش بس ممانعة. إنت مجرمة بحق الـ AUB»! هكذا قمع أستاذ التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت، مكرم رباح، إحدى الطالبات التي استغلّت المساحة المعطاة لها في ندوة نُظّمت قبل أيام في الجامعة. رباح نفسه، بكل ما أوتي من تعالٍ واستلابٍ ثقافويّ، حرّض إدارة الجامعة، التي يقول موقعها الإلكتروني إنها «تشجع حرية الفكر والتعبير وتسعى إلى تخريج رجال ونساء ملتزمين بالتفكير الإبداعي والنقدي»، على الحركة الطالبية وعلى ابتزاز طلاب المنح الأكاديمية ممن شاركوا في الاحتجاجات التي أدّت إلى إلغاء ندوة لاستضافة أكاديمي صهيوني.
فقبل 10 أيام، قرّر زميل رباح وصديقه، الرئيس السابق لقسم الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت بشار حيدر، استضافة الأكاديمي الصهيوني أليك والن في جلسة نقاش استفزازية عبر تطبيق «زووم»، حول «أخلاقيات الحرب في غزة»، ما أثار غضب قسم من الهيئة التعليمية والطلاب، لما يحمله العنوان من تبنٍّ وترويج للسردية الإسرائيلية، عبر «اعتبار الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق الفلسطينيين في غزة حرباً بين طرفين تجوز مناقشة أخلاقياتها».
وعلى الفور، تحرّك كل من «الاتحاد الطلابي العام» و«النادي الثقافي الفلسطيني» ومجموعة «معرفة من أجل التحرير»، أمام مبنى معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة كونه أحد منظّمي الجلسة. ومع انسحاب المعهد من التنظيم، نقل الطلاب تحركهم إلى أمام قسم الفلسفة وهتفوا لغزة ومقاومتها وشعبها الصامد، وضد حيدر لمحاولته «إفراد ساعة ونصف ساعة لأكاديمي ينكر بشكل صريح وواضح حق العودة لفلسطينيّي الشتات، ويعدّه نذيراً بإبادة جماعية بحق يهود إسرائيل».
دفعت التحركات إدارة الجامعة إلى إلغاء الجلسة بحجة ما سمّته «تهديدات أمنية»، متجاهلة إرادة الطلاب والكادر التعليمي. وفي اليوم نفسه (10-11-2023)، نشر رباح مقالاً صحافياً بعنوان «أخلاقيات الجامعة الأميركية مقابل عالم أسود»، حمّل فيه، كعادته، حزب الله مسؤولية التحركات وتوجيه «تهديدات» إلى الجامعة، واعتبر فيه أن من «المضلّل» القول إن «اعتراف المرء بوجود دولة إسرائيل وحقّها في الدفاع عن نفسها يجعل منه مناصراً للعنف والقتل اللذيْن يحصلان ضدّ المدنيّين في قطاع غزّة»!
ووصل الاستلاب برباح إلى حدّ وصمه بعض القائمين بالتحركات بـ«الانحلال الأخلاقيّ والأدبيّ» كونهم «من الذين يستفيدون من أموال ورواتب تأتيهم من منح وبرامج مرتبطة بالغرب»، ما يعني أن عليهم أن يبصموا على كل ما يريده الغرب كوليّ لنعمتهم!
رباح الذي كان متعاقداً مع الجامعة الأميركية، وقرّر مغادرة لبنان لفترة من الوقت للعمل في الإمارات العربية المتحدة، وحاول مراراً الحصول على عقد عمل في جامعات في أميركا نفسها، هبط بـ«الباراشوت» ليصبح أستاذاً مساعداً في الجامعة بقرار من رئيسها فضلو خوري الذي كلّفه بالعمل على رؤية للمئوية الثانية للبنان. وتحوّل رباح عملياً، مع الوقت، إلى ناطق باسم خوري وباسم الجامعة نفسها، مفصحاً عمّا لا يقدر الآخرون على قوله بصورة رسمية، خصوصاً أن إدارة الجامعة تصرّفت بكثير من الحياد السلبي إزاء مطالبة أساتذة وأطباء بإقامة تحركات مفتوحة تضامناً مع الجسم الطبي في قطاع غزة.
مصادر المعترضين على ما يقوم به الناطقون باسم الإدارة اعتبرت أن «الحوار والرأي والرأي الآخر لا تكون في ظل اللَّاتكافؤ الحاد في ميزان القوة بين من يقدّم الرأي ومن يقدّم الرأي الآخر»، ولفتت إلى «أن ليس من واجبنا أن نفتح على أرضنا مساحة لأشخاص للتعبير عن أفكارهم بما يتناسب مع سردية الاحتلال، ممن تفرد لهم مساحات لا حصر لها من جامعات وصحف عالمية ووسائل إعلام جماهيري ووسائل تواصل اجتماعي منحازة إلى الاحتلال».
وعن إلحاق رباح جميع الطلاب بحزب الله، وصف المعترضون كلامه بـ«الشيطنة وتشويه الحقائق وتنكّر لحقيقة أن ثقافة المقاومة وفكرها وتاريخها متجذّرة في الوعي الشعبي ولن تكون حكراً على حزب سياسي أو حركة عسكرية». وطالب المعترضون إدارة الجامعة بإصدار بيان واضح تبيّن فيه موقفها من حق الشعوب المستعمَرة بالتحرر والاستقلال والمقاومة وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، وما إذا كانت تصر على جعل فضاءاتها الأكاديمية منبراً آخر للترويج للسرديات الاستعمارية، في حين يُقمع الطلاب والأساتذة في كثير من الجامعات الغربية لمجرد التضامن مع الفلسطينيين.
وهذه ليست المرة الأولى التي يستضيف فيها بشار حيدر أكاديميين صهاينة، إذ سبق أن استضاف عام 2018 الباحث الأميركي في جامعة أوكسفورد ومستشار كلية الفلسفة في الجامعة العبرية في القدس المحتلة، جيف مكماهان، للتحدث عن «إعادة النظر في أخلاقيات الحرب».
البعثة الفرنسية: «حياد» مع العدوّ
وليس بعيداً عن المناخ «المتصهين» الذي يقود عقل معارضي المقاومة في الجامعة الأميركية، فقد بدا أن إدارة مدارس البعثة العلمانية الفرنسية في لبنان قد سلكت أيضاً الطريق نفسه، معتمدة سياسة كمّ الأفواه المناهضة للمجازر الإسرائيلية في غزة. فقد عمّمت إدارة البعثة على الأساتذة التجاهل التام للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، وقمع أيّ نشاط طالبي تضامني، وقطع الطريق على أي نقاش «من شأنه أن يؤدي إلى معاداة السامية وضرب الهوية العلمانية للمؤسسات التربوية التابعة للبعثة».
غير أنّ التعتيم يبقى أقلّ وطأة من الترويج للرواية الإسرائيلية ودعم حق الاحتلال في الدفاع عن نفسه ومحاربة «الإرهاب»، وتحميل «حماس» وِزر قتل المدنيين، وهي سياسة انتهجتها مدارس البعثة في الأيام الأولى للحرب على غزة، كانعكاس للموقف الفرنسي الرسمي المنحاز إلى العدو الإسرائيلي. فوجد قسم من الأساتذة أنفسهم «مجبرين على تبنّي مواقف نعارضها بشدة. وفيما أشاهد المجازر بحقّ المدنيين، أُطالَب بتجاهلها والتشديد على حق القتلى في الدفاع عن أنفسهم»، بحسب أستاذ في إحدى «الليسيات».
فيما وجد قسم آخر من الأساتذة في الأمر فرصة للذهاب بعيداً في شيطنة المقاومة ودعم إسرائيل والتعبير عن سخطه من جرّ حزب الله لبنان إلى حرب شاملة، لأنه «إذا حصلت الحرب في لبنان، هل يدافع الفلسطينيون عنا؟ فلماذا ندافع عنهم إذاً؟»، الأمر الذي أثار حفيظة بعض الأهالي ممن راسلوا الإدارة طالبين منع الحديث في السياسة.
استمرّت مصادرة آراء الأساتذة والطلاب وفرض لغة تتناقض مع معتقدات البعض منهم أسبوعاً كاملاً قبل أن يقع خلاف وصل إلى حدّ التضارب بين تلميذين على خلفيّة العدوان على غزة، مع بروز معارضة بين الأهالي لتبرير الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين، بالتزامن مع اندلاع تظاهرات حاشدة مندّدة بالجرائم الإسرائيلية في العواصم الأوروبية، ومنها باريس، ما جعل بعض الأساتذة يتجرّأون على الجهر برفض الرواية الإسرائيلية.
عندها، تحوّلت إدارات مدارس البعثة إلى الخطة «ب» القاضية بالوقوف على «الحياد» حيال كل ما يجري، وقرّرت، إيحاءً وليس بشكل رسمي، تجنّب فتح أي نقاش قد يؤدي إلى تصادم بين الطلاب أو الأساتذة أو بين طالب وأستاذه، وعمّمت على الأساتذة التقيّد بالأطر التاريخية الموجودة في كتاب التاريخ (الفرنسي المنشأ) حول رواية نشوء دولة إسرائيل. وفيما يستفزّ التمادي الإسرائيلي في العدوان التلامذة ويدفعهم إلى التضامن العفوي مع المدنيّين على شكل نصّ تعبير أو نشاط صفّي، تقمع المؤسسات التربوية التابعة للبعثة أيّ محاولة من هذا النوع، إذ منعت إحدى المعلمات تلميذتها من اختيار مجازر غزة موضوعاً لنشاطها لأنّ «المدير لن يقبل بأي كلام عن غزة داخل حرم المدرسة».
وتبرّر إدارات المدارس هذا التعتيم بـ«فوبيا الوقوع في معاداة السامية»، كما ينقل أحد طلاب مدارس البعثة، فيما يشير آخر إلى أنّ «المعلّمة تتذرّع بعلمانيّتها كلّما جرّبنا طرح موضوع الحرب على غزة وطلبت منا عدم التدخّل»، متسائلاً «هل تعني العلمانية التجرّد من الإنسانية والمبادئ الأخلاقية؟».
الانتقال إلى موقع المتفرّج ساهم في توفير بيئة هادئة في مدارس البعثة الفرنسية ووضع حدّاً لمشكلة تضارب الآراء، وهو بالنسبة إلى البعض يبقى أفضل من إجباره على تبنّي موقف يعارضه. لكن، في كلتا الحالتين، يدرك الأساتذة والتلاميذ أنّ البعثة الفرنسية أحكمت الخناق على حريتهم «المزعومة» في الرأي والتعبير والنقاش عندما أعطت موقفاً حاسماً وحاداً بهذا الشكل، «ما لم نعشه في أي مرحلة سابقة، إذ لطالما كان هناك هامش واسع من الحرية في التعبير عن الآراء والمواقف»، على ما تقول إحدى المعلمات.
الثابت والطاغي على المشهد في مدارس «الحريات العامة» كمّ الأفواه فقط عندما يتعلق الأمر بجرائم إسرائيل، وهذا بحدّ ذاته موقف داعم للعدوّ لا يمتّ إلى الحياد بصلة.