/ محمد حمية /
بقّ الرئيس سعد الحريري “البحّصة” السياسية، التي كتمها طيلة فترة غيابة “الطوعية”، أو ربما “القسرية”، الأخيرة عن لبنان، فكما كان قدر والده الرئيس رفيق الحريري مليئاً بالمواجهات، والتعرجات، والعواصف السياسية، والمُعبّد بالدماء، يواجه “وريث العائلة” قدره السياسي المُزنّر بالصدامات والصدمات، والخيبات، والضربات، الواحدة تلو الأخرى. فـ”السعد” لم يهنأ بمالٍ وغنمٍ، ولا بحكمٍ وسلطة، وضرب الرقم القياسي بالاعتكافات، والاستقالات، والعزل، والإقصاء من رئاسة الحكومة، منذ العام 2015 حتى اختتم هذه المرحلة الصعبة بتعليق عمله السياسي، والعزوف عن الترشح للانتخابات النيابية، والجديد دعوته لتيار المستقبل أيضاً عدم الترشح ومقاطعة الانتخابات!
لا يمكن عزل قرار الحريري المصيري، عن مرحلة ما بعد التسوية الرئاسية التي أبرمها مع “الجنرال” ميشال عون، حليف حزب الله، وما تلاها من حُرم سياسي ومالي وشخصي رمته السعودية على “ابنها الضال”، بعدما شق عصا الطاعة، فرمت “المملكة” يمين الطلاق عليه، ولم تنجح محاولات دول خليجية وعربية، وحتى غربية، بالعفو عنه ورده الى “بيت الطاعة”. فالمملكة اتخذت قرارها وبدأ التنفيذ منذ احتجازه في “الريتز”، في تشرين العام 2017، ومُذاك بدأت النهاية السياسية لـ”الشيخ”، مرورًا بإسقاط حكومته في الشارع في الـ2019، وبعدها اعتذاره عن تأليف الحكومة في الـ2021، حتى اعلان تعليق عمله السياسي اليوم.
دفع الحريري، وللإنصاف، أثماناً سياسية باهظة جراء سياساته التي انتهجها، وأبرزها: التسوية مع عون، وتساكنه وحزب الله ضمن إطار ربط النزاع، والانكفاء عن المواجهة معه، ودرء الفتنة المذهبية.
لا يمكن فصل خطوة الحريري عن سياق الأحداث في المنطقة، و”ضرورات” المرحلة المقبلة، التي تتسِمُ بالحوارات والتفاهمات التي تجري على الساحتين الإقليمية والدولية، وترتيب الملفات، وتسوية الأزمات، وفي قلبها سوريا ولبنان.. وفي الحد الأدنى، لا يمكن تفسير قرار كهذا بالخروج من الحياة السياسية بالاعتبارات المحلية، كأن يكون قرار محلي اتخذه الحريري أو تياره، بل يحمل قرارًا خارجياً، وسعوديًا تحديدًا، بإقصاء الحريري عن المشهد السياسي.
من غير المعقول أن يراهن الحريري بمستقبله السياسي، أو أن يضع مستقبل حزبه، على محك التلاشي، أو مصير “امبراطورية الحريرية السياسية” على طريق الانهيار والاضمحلال، أو يمنح خصومه على الساحة السنية هدية خروجه على طبق من فضة بخطوة منفردة كهذه، ولا أن يُخالف اجماع كتلته وتياره، ولا ينصت لنصائح وتمنيات حليفيه الرئيس نبيه بري والنائب السابق وليد جنبلاط بالعدول عن قراره. إذًا ثمة قرار خارجي أكبر منه، ومن البلد كما تقول مصادر سياسية مطلعة على التطورات، وعلى المزاج السني الذي خرجت بعض أصواته لتحمل المملكة مسؤولية قرار “بيت الوسط”، لكن سرعان ما تم وأد هذه الأصوات، “فلم نعد تحتمل المزيد”، تقول أوساط مقربة من الحريري.
لكن السؤال، بحسب أوساط مطلعة على الملف السياسي: لماذا لجأ الحريري لأسوأ الخيارات وأمرّها؟ وهل هناك الأمرّ لكي يختار الأقل مرارة؟ وكيف استطاع السعوديون فرض ارادتهم على الحريري؟ بالتأكيد ليس بالمونة، وإنما بأدوات التهديد والضغط التي يعرفها الحريري وجربها في وقت سابق، ولا يريد تكرارها، أو معاكسة رياح المملكة، فيدفع أثماناً مضاعفة. فالانحناء أمام العاصفة هو حكمة وبراعة للإنقاذ من الغرق.. فهل هناك قرار سعودي بإقفال “بيت الوسط” سياسيًا، وختم دار “عائلة الحريري” بالشمع الأحمر، ولم يستطع الحريري مقاومته؟ أم هناك صفقة أو مقايضة ما بين الحريري والمملكة، بأن يخرج الحريري من الحياة السياسية، مقابل تسوية أوضاعه المالية التي كانت سبب الخلاف الأساسي بينهما؟
المصادر تؤكد أن قرار الحريري سيرتب تداعيات كبيرة على المستويين السنّي والوطني، وما يعزّز المخاوف، أن يكون جزءاً من مشروع او مخطط سياسي يجري التحضير له، بالتوازي مع المبادرة الكويتية التي ستفجر المشهد السياسي إن رفضها لبنان، وقد وُضِع الحريري في أجواء هذا المشروع، فقال كلمته ومشى، وكانت أشبه ببيان نعوة للبلد وليس له شخصياً، مكررًا كلمة والده الأخيرة قبل استشهاده “استودع الله لبنان” وقد اغروّرقت عيناه بالدموع.
ووفق المعلومات، فإن الحريري استدرك مخاطر معاكسة القرار الخارجي، فحسم خياراته، ما يُضفي الأبعاد الخارجية التي أملت عليه قراره، فـ”مكره أخاك لا بطل”، وقد يُخفي التوجه الأميركي ـ السعودي باستبعاد عائلة الحريري عن واجهة الساحة السنية في لبنان، إعادة ترتيب هذه الساحة وفق المخطط المرسوم للبلد. فهل علينا أن ننتظر موجة فوضى سياسية وأمنية جديدة قبل الانتخابات؟ هذا إن حصلت؟
قد يرى البعض أن قرار الحريري حرره من سجنه، ومن الكثير من القيود ومُر الالتزامات وسُم الخيارات. لكن بالتأكيد، الحريري مازال محتجزًا داخل سجنه السعودي في الامارات، ولن يخرج منه في القريب العاجل، حتى تتبدل معطيات سياسية في المملكة وخارجية تتعلق بأوضاع المنطقة.