/خلود شحادة/
قضي الأمر.
أعلن الرئيس سعد الحريري خروجه، وتيار “المستقبل”، من الحياة السياسية تحت عنوان “تعليق العمل”.
ثلاثون سنة كاملة طواها سعد الحريري من مسار “الحريرية السياسية”، بعد أن ألغت “الحريرية” تدريجياً غالبية الرموز في الساحة السنية، وصولاً الى شطبها بالكامل بعد العام 2005 على اثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
واذا كان الحكم على “الحريرية السياسية” متناقضاً في التقييم، بين منتسب لها حتى النخاع، ولأسباب متعددة، وبين معارض لها حتى العظم، لحيثيات مختلفة، إلا أن مشروعها اصطدم مراراً بعقبات موضوعية، وهي تركت بصماتها عميقاً في الواقع اللبناني.
عُلّقت “الحريرية السياسية” لأول مرة في العام 2004 بقرار من الحريري “الأب”، قبل أن يعيد اغتياله الزخم بقوة لتلك الحريرية التي اختارت من سعد “الابن” رمزاً لها.. إلى أن علّقها في 24 كانون الثاني 2022، أي بعد 17 سنة شهدت مساراً متعرجاً وحاداً لتيار “المستقبل”.
ألغى الحريري الابن “نفسه” و”تياره”، طوعاً في الشكل، وربما قهراً في الخلفية التي يبدو أنها أرادت “اغتيال” سعد الحريري سياسياً، بعد أن اغتيل رفيق الحريري عام 2005 جسدياً.
حضور رفيق الحريري السياسي بدأ مع اتفاق “الطائف”، ويبدو أن خروج الابن من الحياة السياسية، يؤشر الى أن مفاعيل “الطائف” قد انتهت، مع ما يعني ذلك من تداعيات خطرة على مستوى التوازن الوطني، بسبب الاختلال بهذه التوازنات نتيجة خروج سعد الحريري وتيار “المستقبل”، وترك الساحة السنية اليوم في حالة ارتباك كبير، في ظل غياب المشروع البديل، أو التمثيل القوي للشارع السني، والذي يستطيع حماية ما تبقى من دور وموقع للسنة في التركيبة اللبنانية.. فمن يملأ الفراغ؟
في القراءة الأولى، حرّكت عاصفة انكفاء سعد الحريري الضباب “كثيفاً” فوق الساحة السياسية السنية، ولن يكون من السهل استشراف المشهد منذ اليوم.
لكنّ هذا “الاعتزال” قدّم انتصاراً مجانياً لخصومه أولاً، وفتح الباب على مصراعيه أمام أجنحة التيار، كي تحلّق خارج سربه بحرية، بحثاً عن ذاتها سياسياً.
يوحي المشهد السياسي في الساحة السنية، في هذه اللحظة، أنها ستكون مقطّعة الأوصال، وربما مستباحة من بعض القوى التي كان يشكل سعد الحريري عائقاً أمام تمددها.
تكشف الخريطة أن “الساحة” تحولت الى “ساحات” مناطقية، تطل عبرها قوى محلية في كل منطقة، خصوصاً في مناطق الثقل السني، أي في “بيروت، طرابلس، عكار، صيدا، المنية، الضنية، إقليم الخروب والبقاع الغربي…”، بالإضافة إلى طموح قوى من خارج هذه البيئة، لتمثيل نيابي متحالف معها، وينضوي تحت لوائها لاحقاً.
في الشارع السني، اليوم، لم تعد توجد قوة سياسية تتمتع بحضور فاعل على كامل رقعة “الوجود السني”، باستثناء التنظيمات الإسلامية (الجماعة الإسلامية وجمعية المشاريع)، ما يعني بالتالي أن الانتخابات المقبلة ستحمل رموزاً مناطقية، وكتلاً صغيرة ترث كتلة “المستقبل”، سياسياً ونيابياً.
في بيروت، المشهد معقّد جداً، في ظل غياب أي رمزية سنية، يمكنها أن ترث التمثيل الذي كان يحتكره، تقريباً، تيار “المستقبل”.
“الجماعة الإسلامية” و”جمعية المشاريع” لا يمكنهما ملء الفراغ، كما أنّ نهاد المشنوق وفؤاد مخزومي لا يحظيان بالقدر الكافي من الحضور، لتعويض غياب “المستقبل”.
ذلك يعني، أن بيروت ستشهد بروز ترشيحات من العائلات “التقليدية”، التي لطالما وقفت الى جانب رفيق الحريري، ومن بعده الى جانب سعد الحريري. مع الإشارة هنا الى أن انكفاء “المستقبل” سيؤدي الى تراجع حادّ في نسبة المشاركة في الاقتراع، والتي كانت ضعيفة تاريخياً.
وفي طرابلس، ينتظر المشهد الانتخابي قرار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي يحدد مسار المعركة الانتخابية فيها. وعلى الرغم من بعض الترجيحات عن اعتذار ميقاتي، الّا أنّ ردة فعل رئيس الحكومة على انسحاب الحريري توحي بأنه سيكون حاضراً في الانتخابات. وهذا يعني أنّ طرابلس لن تتأثر كثيراً باعتزال “المستقبل”، بسبب التنوع السياسي فيها بين ميقاتي وفيصل كرامي ونجل محمد كبارة وغيرهم.
وفي حين أن الضنية والمنية قائمة على التوازنات العائلية التي تعامل معها “المستقبل”، فإن التخبّط في عكار، سيكون عنوان الترشيحات والانتخابات، بسبب عدم وجود أي قوة فاعلة في الشارع السني خارج “المستقبل”.
في البقاع الغربي، ستكون هناك فرصة لبروز شخصية سنية، من خارج “المستقبل، أو من رموزه، ترافق نجل عبد الرحيم مراد في الانتخابات.
في إقليم الخروب، سيحاول وليد جنبلاط “رشوة” جمهور “المستقبل”، بالتحالف مع مرشح يعبر عنهم.
أما صيدا، فهي تنتظر القرار الحاسم من بهية الحريري، فاذا التزمت دعوة سعد، وانكفأت عن الترشيح، فتكون صيدا على موعد مع عودة المنافسة التقليدية بين القوى السياسية الحاضرة فيها، كأسامة سعد وعبد الرحمن البزري و”الجماعة الإسلامية”، في ظل علامات استفهام حول القرار الذي سيتخذه الرئيس فؤاد السنيورة.
في المحصلة، بدأت رحلة البحث عن “زعيم سني”، أو أكثر، يقطع الطريق على تنامي حضور شخصيات وتيارات متشددة ومتطرفة، لا تمانع المغامرة بالسنّة ومستقبل حضورهم في التركيبة السياسية اللبنانية.
هذه القراءة الأولية، تبقى صالحة في حال التزم “المستقبليون” قرار سعد الحريري. أما اذا “تمرّدوا” على زعيمهم، فانّ سعد الحريري سيطوّب مجدداً “زعيماً” للسنة بعد “نجاته” من محاولة “اغتياله” سياسياً.