| عبد الرحيم الشيخ |
قد لا ينتصر الحق في نهاية معركة واحدة، فالحرب سجال، ولكن الحقيقة تنتصر منذ البداية، وتواصل الانتصار. هذا هو حال غزة بعد عبور 7 تشرين الأول 2023 الذي انتصرت فيه الحقيقة وأُرجئ فيه الحق ليظل برسم الانتصار القادم. فانتصار الحق يعني انتصار حركة التحرر الوطني الفلسطيني على حركة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ودولته «إسرائيل» في معركة التحرير والحرية وتقرير المصير، لتعود فلسطين كلها فلسطينية، ويعود الفلسطينيون. وأما انتصار الحقيقة، فهو انتصار المقولة الأخلاقية التي تمنح الفلسطينيين الحق في المقاومة لتحقيق أهدافهم الوطنية التي تحوَّل القتال في سبيلها من حق إلى واجب في فلسطين وبلدان الشتات والعالم. ولكن «إسرائيل» وشركاءها في حرب الإبادة والتطهير العرقي والمتواطئين معها لتدمير غزة، ومنذ اليوم الأول لمعركة «طوفان الأقصى» وحتى اللحظة، تحاول تركيز الأنظار على «فعل البادئ في يوم 7 تشرين الأول 2023 الذي لم يشهد «الإسرائيليون» مثله منذ حرب النكبة ولم يشهد «اليهود» مثله منذ المحرقة»، في ظل طمس تام لمظلومية غزة التي تجسِّد ذروة سنام المظلومية الكبرى لاستعمار فلسطين منذ أكثر من مئة وعشرين عاماً.
وفي هذا كله، لا تزال «إسرائيل» تتهم الكاميرا باللاسامية، وتتجاوز ذلك لاتهام موت الفلسطينيين الذين تبيدهم آلتها العسكرية باللاسامية. إنه زمن لاسامية الكاميرا، ولاسامية الحياة، ولاسامية الموت… حياة الفلسطيني وموته من مجزرة المستشفى المعمداني حتى مجزرة مستشفى الشفاء. لكنه زمن غزة، أيضاً، وزمن فلسطين، الحق والحقيقة، في ظل غياب مريب للمعمدان والمخلِّص، وحضور واضح لرأسه المقطوع وصليب رفيقه المرفوع.
منذ 38 يوماً على اندلاع المعركة، وفي ظل احتجاب المؤسسة الفلسطينية الرسمية التقليدية وخطابها الهازم لذاته، وفيما سطَّرت المقاومة الفلسطينية في غزة صفحات بطولة غير مسبوقة في تاريخ فلسطين، سطَّر الفلسطينيون حدود حقهم ومبادئ حقيقتهم في خطاب يجدر تخليده في كتب التاريخ، تاريخ المغلوبين الذين يصنعون تاريخهم ويكتبونه، وإن عزّ الانتصار.
وكإسهام في هذا الخطاب الذي يحفظ حدود الحق ومبادئ الحقيقة من الخلخلة، أصدرت نقابة أساتذة جامعة بيرزيت وموظفيها في فلسطين المحتلة ثلاثة بيانات لشعوب العالم والشعوب العربية والشعب الفلسطيني، ونداءً إلى المجتمعات الأكاديمية والثقافية، تدشَّن فيها حق الفلسطينيين وحقيقتهم، وعناوينها على التوالي: «كلنا فلسطينيون»، «كلنا مقاومة»، «كلنا غزة»، «كلنا جنوب».
وعلى وفرة مقولات لا جدوى من الكتابة في زمن الحرب، التي تتفوق على صوتها أصوات المعركة، وندرة مقولات جدوى الكتابة كجزء من المقاومة بوصفها «جدوى مستمرة» كما أعلنتها صرخة الشهيد باسل الأعرج… وُضعت النقاط على الحروف. قلنا: «كلنا فلسطينيون» لنؤكد للعالم ما يعرفه «من شروط مظلمتنا التاريخية التي تجاوزت مئة عام وحقنا الذي لا يقبل المساومة في ممارسة كل أشكال العنف الثوري ضد العنف الاستعماري». وأعدنا القول «وقد أعادت بنى العنف الإمبريالي وهيمناته المتتالية، التي رعت المشروع الصهيوني في بلادنا، اصطفافها تحت اللازمة القديمة التي [يعرفها العالم] من أسطوريات «حرب الحضارة ضد البربرية»، وذلك لكسر إرادة الحياة والحرية لدى شعبنا الفلسطيني».
قلنا إنه «ليس لدينا في فلسطين المحتلة، ولا لدى الفلسطينيين في مختلف أماكن شتاتهم، أي أوهام بشاعرية أحلام انتصار القلم على السيف، لأن السيف نفذ عميقاً في لحمنا الحي على أيدي عدونا المكفول من «المجتمع الدولي» المنافق وقدر التاريخ الإمبريالي وقدرته على احتكار السيف (الذي يقتل) والقلم (الذي يروي أفعال القتل). لا مناص أمامنا [….] في فلسطين المحتلة، من استخدام الكلمات رغم ما قد تعكسه الكلمات من اللاجدوى في مثل هذه الأزمنة الحرجة. ولكننا أيضاً نثق بالروح المعاندة لشعبنا الفلسطيني ومقاومتنا، ونثق بانتصار حريتنا وحقوقنا الثابتة.
إننا نعرف ونعلن أننا، في هذا المنعطف التاريخي الحرج والطارئ، سننتصر، وأن العدالة ستنتصر. لسنا ضحاياكم السلبيين، رغم أننا قُتلنا، وشُوِّهنا، وهُجِّرنا على يدي دولة المستوطنين التي تحركها أيديولوجيا الكره الجنوني والعنف الدموي، ولكننا نعلن أنه لن يتم إسكاتنا. فمقاومتنا تنير لنا الطريق للأمام، وسنبقى صامدين، وسننتصر». وأعدنا القول إن المعركة اليوم ليست بين حقين تاريخيين كما روَّج بعض المثقفين الصهاينة في ما مضى لوصف «تراجيديا الصراع التاريخي»، و«إن المحاولات الخجولة والاعتذارية التي ظهرت في الأيام الأولى للحرب من عدد قليل من الأكاديميين والمثقفين العالميين لـ«إدانة العنف من الطرفين» لا تستحق الرد.
ولكننا نستثمر هذه الفرصة لتأكيد أنه لا يوجد «طرفان» في حرب الإبادة الحالية، بل جيش مجرم يمارس وحشيته وشعب محاصر يمارس حياته وحقه في الدفاع عنها. وهذه جولة جديدة من الحرب الطويلة التي تشنها دولة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني «إسرائيل» على الشعب الفلسطيني ومقاومته. وهي حرب يظهر فيها بوضوح فائض الحق الفلسطيني في مواجهة فائض القوة «الإسرائيلي»، حيث لا يوجد تكافؤ أخلاقي بين المستعمَر والمستعمِر ولن يكون: لا تكافؤ بين سيفهم ودمنا، ولا تكافؤ بين حديد قذائفهم ولحم ضحايانا».
ولذا، فإذا كان لمقولة لا-جدوى الكتابة من وجاهة ضئيلة، فلأن فلسطين اليوم أكبر من مجازها وأعلى من التاريخ، إذ لا تاريخ يتّسع لفعل غزة الذي لن يكون ماضياً أبداً، بل هو صمود برسم الحاضر المستمر. فغزة صناعة للزمان في لحظة استهداف زمان فلسطين. وغزة أوسع من المكان في لحظة استهداف مكان فلسطين. وغزة تعانق الإنسان وتحتضنه في رقاده قبل الأخير وهي تصرخ في وجه الحي الباقي القهار: «أيها الله: ها هو عدو الإنسان يبيد ابنك الإنسان، أين يدك التي فوق أيدي أبنائك؟ غزة يد الله… يدك التي ترفع حقيقة الأحياء والموتى في وجهك، وتدافع عن حق الحياة في وجه الموت. وأنت الذي خلقت الموت والحياة من قبل سورة الملك ومن بعدها».
لكن غزة أوسع من اللغة، والعربية وحدها تضيق بعوالم غزة، وتلجأ إلى ما هو أوسع من اللغة لأن غزة لغة ذاتها، لغة فوق اللغة، وأي فضاء في كون الله وعوالمه يتسع للغة فوق اللغة؟ غزة أصغر من الموت وأكبر من الحياة، لأنها أوسع من قيود الإحصاء، وشهداؤها وجرحاها ومشردوها يستعصون على الترقيم لأن أرواحهم تزاحم ملائكة الحياة والموت بين طائرات العدو التي ملأت سماء الله. من في وسعه أن يحصي الملائكة؟ لكن غزة هي غزة، فقط. هذا هو تعريفها.
ولأن فلسطين أكبر من مجازها، ولأن غزة درَّة تاجها، فهي أكبر من المجازات الكونية أيضاً. غزة مجاز نفسها. غزة ليست طروادة، ولكن مقاوميها وأهلها طرواديون من غير سوء. فطروادة التي دمرها جبروت إسبارطة وجنون الإغريق عشر مرات ولم تنكسر، قاتل أبناؤها حتى الرمق الأخير، ثم انسحب من تبقى منهم على قيد القتال وأسسوا روما التي رغبت أيضاً في احتلال العالم بعد هزيمة قرطاجة، وفعلت. من هنا تستمد الكتابة جدواها لتدشين الفارق النبيل بين الحق والحقيقة، لا للتفجُّع على مصير المغلوبين الذين فاتهم الانتصار.
فالفلسطينيون اليوم، وهم يصنعون التاريخ ويكتبونه، يتذكَّرون جيداً مقولة شاعرهم الأكبر محمود درويش: «لا تكتب التاريخ شعراً». لكنهم يتذكَّرون جيداً، كذلك، مقولة الإسكندر المقدوني، المستعمر الأكبر الذي سعى إلى احتلال الكرة الأرضية بأكملها وسفك دماء مئات الآلاف: «من أين لي بشاعر عبقري كفيف يكتب أمجادي كما كتب هوميروس بطولات آخيل؟» انحاز الإسكندر المقدوني إلى «بطولة» الغازي المدجج بالأسطورة والسلاح وكعبه المنذور للحياة، لا إلى بطولة الطرواديين المدججين بالأمل رغم خذلان الآلهة. ولو قرأ رئيس وزراء العدو اليوم، ووزير حربه، درس التاريخ، وامتلكوا بعض البلاغة، لتاقوا إلى شاعر كفيف يستبدل «كعب آخيل» الذي أخطأته سهام طروادة بـ «قبعة الحديد» التي لم تحمِ رأس «آخيل المقلوب» ودولته من نار غزة المحاصرة.
على وقع غارات الإبادة الليلية، يواصل الإعلام العبري، الذي غاب عنه الشعراء والضمير كالعادة، حديثه عن تصريح الوزير الفاشي، أباً عن جد، عاميخاي إلياهو (الذي صرَّح بضرورة محو غزة ومن فيها بالسلاح النووي) بصفته خطراً على «إسرائيل» نفسها لا على غزة، ويطالب بإقالته فوراً لأنه مضرٌّ بصورتهم في العالم نتيجة تصريحه «غير العقلاني». لكنهم يناقشون، بشكل «عقلاني» طبعاً، ضرورة قصف «غزة التحتا»، أو غزة الأخرى التي تحت غزة، تحت المستشفيات والمدارس والجامعات والكنائس والمساجد والمخابز وآبار المياه والمقابر، التي يفترضون تواجد المقاومين في أنفاقها، بأكبر كثافة نيران ممكنة (أي تدمير نووي غير معلن)، ويطالبون «المدنيين» في غزة بالمغادرة من دون إرشادهم إلى أين. وبين حضور «العقلانية» وغيابها وحضور العالم وغيابه، تتصرف دولة المستوطنين، بآلتها العسكرية والسياسية والإعلامية، كوحش أسطوري بعين واحدة يعمل على تدمير كل شيء في سبيل العثور على من فقأ عينه الأخرى، وقد عجزت «عائلة الإنسان الكبرى» عن لجم الوحش، وإنقاذ غزة من الحريق المعلن.
أما إعلام الفلسطينيين الرسمي، فقد غاب عنه كل شيء ذي جدوى، بما في ذلك الشعراء وأميرهم الذي كرَّس حياته، كشاعر وكسياسي، مدافعاً عن «الفروق الصغيرة» لقول مأساة الفلسطينيين التاريخية بعدما وقعوا ضحية واحد من أقسى الشروط الاستعمارية في التاريخ. وأما طروادة والأندلس والمنفى، فلم تعد اليوم محض استعارات كونية في البلاغة السياسية، وإنما دخلت حيز التداول في الخطاب العام. هنا، صارت مفاهيم النصر والهزيمة والمنفى، استعارات كبرى لمشهديات متغايرة جعلت من مصير طروادة مجازاً للانتصار الأخلاقي رغم غلبة العدو العسكرية، ومن سقوط الأندلس مجازاً لغياب الأرض وحضور القصيدة، ومن تجربة الشتات مجازاً لفكرة سارة وحضور هاجر التي لا تزال تبحث عن الماء في رمال غزة.
قبل عشرين عاماً، قال شاعر الفلسطينيين المبصر: «لم أكن واقعياً. ولكنني لا أصدق تاريخ «إلياذة» العسكريَّ. هو الشعر أسطورة خلقت واقعاً… وتساءلتُ: لو كانت الكاميرا والصحافةُ شاهدةً فوق أسوار طروادةَ الآسيويةَ، هل كان «هومير» يكتب غير الأوديسة؟» وكم كان صادقاً حين أعلن نفسه «شاعراً طروادياً»، يقرأ النصر كلحظة موت ولحظة حياة على صفحة الأرض وعلى صفحة القصيدة، لحظة تحويل الشعر إلى سردية تاريخية، إذ لا يغدو الشعر وسيلة لهزيمة الموت فقط، بل، وأهم من ذلك، وسيلة لهزيمة ذاكرة الهزيمة نفسها. لم يفته التوتر القائم بين التاريخ «الفعلي» لحروب البليبونيز الإغريقية، وقوة الأسطورة الطروادية، ولم يفته كذلك، أن مداخلته الشعرية تعيد تأطير استعارة النصر كي تكون، حتى بعد الهزيمة، أمثولة لفلسطين وللفلسطينيين الذين أعلنت غزة الآسيوية أنها ستكتب تاريخهم، وتجعل الواقع يخلق أسطورته على عكس طروادة الآسيوية التي خلقت فيها الأسطورة واقعها… حتى وإن كان لدى التاريخ الأبيض أقوال أخرى. أما وائل الدحدوح، وقد التقت دموعه بدموع الكاميرا، وهو يتفقَّد ما تبقَّى من جثامين عائلته وأشلائهم، فقد أرسل برقية عاجلة لإسبارطة الجديدة، وأحفاد الإغريق، ومحمود درويش، في ضريحه الذي في حديقة البروة التي في رام الله، جنوب عكا…
واختصر تاريخ غزة العسكري وتاريخ الكاميرا التي فوق أسوارها المهدَّمة بكلمة واحدة: «معلش». واليوم، يواصل وائل الدحدوح ومئات آلاف الفلسطينيين سفرهم المستحيل إلى جنوب الحياة في جنوب غزة انتصاراً لإرادة حياة الضحية على جلادها رغم «صعوبة مفارقة الديار»، ويقين المغلوبين بحتمية الانتصار، ولو بعد حين.