/ سلوى بعلبكي /
فيما لا تزال مزايدة تلزيم قطاع البريد مدار أخذ وردّ بين وزير الاتصالات جوني القرم، ورئيس هيئة الشراء العام جان العلية، حيال قانونيتها والموقف ذي الصلة المنوط بدور كل منهما، تكثر الاسئلة عن مصير خدمات البريد: هل تخرج من السوق وتستسلم للإنهيار، أم تلزَّم وفق القانون لشركة جديدة، أم يمدَّد لشركة “ليبان بوست” التي تدير القطاع منذ العام 1998؟
فالقرم يقول: “لا شيء بيدي لأنفّذه، وكل الخيارات المتاحة صعبة وغير مستحبة”. أما العلية فيقول إن “مهمة هيئة الشراء العام وديوان المحاسبة انتهت عند هذا الحد، وأصبح الملف برمّته في عهدة مجلس الوزراء، وجميعنا ننتظر القرار النهائي”.
أمام هذا الواقع، وفي انتظار القرار النهائي لمجلس الوزراء الاسبوع المقبل، بعدما سقطت ثلاث محاولات لتلزيم قطاع البريد لشركة تخلف “ليبان بوست”، وتوافر ظروف أفضل للمزايدة، يطرح معنيون بالقطاع فكرة إنشاء “كيانٍ ذي غرض خاص”، وهو عبارة عن شركة مساهمة تؤسسها الدولة اللبنانية وتموّلها، وتستحوذ على جميع أسهمها، ويُعهد إليها بتشغيل القطاع الى حين إنضاج ظروف لإجراء مزايدة جديدة، يتولى الفائز فيها مسؤولية التشغيل. فماذا في التفاصيل؟
في 18 نيسان 2023، كلّف مجلس الوزراء وزير الاتصالات تحضير خطة لتتسلم الدولة قطاع البريد من شركة “ليبان بوست” توازياً مع العمل على تحضير مناقصة جديدة، إذ قال وزير الاعلام بعد جلسة مجلس الوزراء حينذاك: “… أما في موضوع شركة ليبان بوست التي ينتهي عقدها في 31 أيار، فالوزير (القرم) أمام ثلاثة خيارات: إما التمديد، وهذا أمر رفضه رئيس مجلس الوزراء، وإما اجراء مزايدة جديدة، وإما ان تتسلم الدولة القطاع على ان يعمل وزير الاتصالات بالتوازي على تحضير مناقصة وتحضير خطة لتتسلم الدولة القطاع من شركة ليبان بوست”.
لماذا إذاً تراجع وزير الاتصالات عن تحضير خطة لتتسلم الدولة الخدمات البريدية من “ليبان بوست” من دون العودة الى مجلس الوزراء؟ الوزير قرم أكد لـ”النهار” “أن الموضوع صعب وبحاجة الى تمويل واختصاصيين”، مضيفا أنه “صُرف النظر عن إنشاء هذه الشركة لأن حظوظ نجاح المشروع ضئيلة جداً لبضعة اعتبارات وحاجتها إلى تمويل لا يقلّ عن 5 ملايين دولار، ووجود كادر متخصص في الإدارة والقطاع، فيما للأسف لا يعمل في الوزارة إلا المدير العام ومساعدته”.
مصادر متابعة لقطاع البريد والاتصالات تفند الاسباب التي اوردها الوزير قرم لعدم التحضير لخطة عمل تتسلم بموجبها الوزارة قطاع البريد، وهي ثلاثة: الصعوبة، والاختصاص، والتمويل.
من حيث الصعوبة، تقول المصادر إنه “حبذا لو ان تسيير الشأن العام وأمور الدولة هو بالسهولة التي يتمناها البعض، ويمكن معها إنجاز العمل في الشأن العام من دون مجهود. فتبسيط الأمور غير واقعي، وعلى المسؤول في الشأن العام القيام بالعمل الجاد لمواجهة الصعوبات مهما كانت كبيرة، وليس استسهال الحلول على حساب الدولة والناس”. وتسأل المصادر: أين الصعوبة في تحضير الخطة وتسلم القطاع وإدارته؟ وذكرت أن “ما قامت به وزارة الاتصالات في العام 2002 لجهة تسلم قطاع الخليوي كان عملا مجديا. وللمقارنة ان الظروف الداخلية التي كانت يومذاك هي أصعب بكثير من الظروف الحالية، إضافة الى أن حجم قطاع أعمال الخليوي يفوق بكثير حجم أعمال البريد، وكذلك التعقيدات في الأنظمة والتجهيزات والشبكات والبرامج والعقود والمحطات، هي أكبر بكثير من التعقيدات في عمل قطاع البريد. أما لناحية الظروف الداخلية في ذلك الوقت، فكان ثمة رأيان تجاذبا الحلول في قطاع الخليوي آنذاك، رأي عمل عليه وزير الاتصالات في حينه مدعوما من رئيس الجمهورية إميل لحود، ورأي آخر جسّده الرئيس رفيق الحريري من خلال المجلس الأعلى للخصخصة. اما اليوم فالحكومة والأطراف السياسية غير مختلفة على الحلول المطروحة، خصوصا أن مجلس الوزراء كلّف وزير الإتصالات إعداد خطة التسلم في حال فشل المزايدة”.
تسلّم الدولة لقطاع البريد هو بهدف تحديد التوقيت الأمثل لتوافر ظروف أفضل من أجل إجراء المزايدة بما يؤمّن المصالح الفضلى للدولة اللبنانية. في هذه الحالة، تؤكد المصادر أنه “لا يمكن للدولة اللبنانية تسلم قطاع البريد وإعادته الى المديرية العامة للبريد في الوزارة من أجل تشغيله، كون جميع الاجراءات الادارية والقانونية والتشغيلية والتجارية والتمويل والتوظيف والفوترة والتحصيل سوف تعود وتخضع لبيروقراطية الإدارة، وتاليا ثمة حاجة أساسية لخلق كيان جديد وهو ما يُعرف بـ “كيانٍ ذي غرض خاص” SPV أو Special Purpose Vehicle. وهذا الكيان هو عبارة عن شركة مساهمة لبنانية تؤسسها الدولة اللبنانية من خلال وزارة الإتصالات وتكون الدولة هي مالكة جميع الأسهم فيها، ويتم إيداع جميع العقود القائمة والعائدة لشركة ليبان بوست في هذه الشركة الجديدة التي تتولّى إدارة القطاع وتشغيله، وما ان تصبح الظروف مهيأة لإجراء المزايدة بنجاح، تتم المزايدة والرابح يتسلم إدارة الشركة وتنتقل الامور بسلاسة الى الشركة الجديدة”.
ولكن هل من اختصاصيين وإداريين متخصصين للقيام بإعداد خطة التسلم والاجراءات اللازمة لتشكيل لجان التسلم وتسجيل الشركة وإدارتها وتشغيلها لحين إجراء مزايدة ناجحة؟ تذكّر المصادر بأمرين على قدر كبير من الاهمية: “الاول أن ثمة مديرين عامين سبق ان تم وضعهم ظلماً بتصرف رئيس الحكومة، وهم يتمتعون باختصاص وخبرات واسعة في الإدارة والإتصالات، وتاليا لا بد من الاستعانة بهم لتسلّم قطاع البريد وإدارته وتشغيله. اما الأمر الثاني فهو ما حصل بالتحديد لدى تسلم قطاع الخليوي، اذ لجأ وزير الإتصالات في حينه الى الاستعانة بمديرين من هيئة أوجيرو، اضافة الى فريق عمل الوزير”.
ولجهة التمويل، تؤكد المصادر أن “الشركة قائمة والعمل مستمر وهي تستطيع تمويل نفسها بنفسها دونما حاجة الى خزينة الدولة، بل على العكس سترفد الخزينة بمبالغ سنوية كبيرة، إذ في حديث سابق قال الوزير قرم في ما يتعلق بالتمويل إنه “وجّه السؤال الى القيّمين على ليبان بوست فأجابوا أن الدراسة المقبولة تشير إلى أنّ الأرباح السنوية تصل إلى حدود نحو 50 مليون دولار”، علما ان الشركة تقدم أكثر من 70 خدمة حكومية مع معظم الوزارات، وأكثر من مليوني معاملة حكومية سنويا.
6 أشهر كاملة مضت منذ تكليف مجلس الوزراء وزير الاتصالات تحضير دراسة لتسلم الخدمات البريدية من “ليبان بوست”، والوزير لم يحرك ساكنا. فهو جاء الى الوزارة من خارج اختصاص “الإتصالات” (خليوي وثابت وبريد). إضافة الى ذلك، تقول المصادر إن ما يحول دون مواجهة جدية للأزمات وتحقيق إنجازات في وزارة الإتصالات هو غياب الكادر الكفوء من مديرين ومستشارين.
لإنقاذ قطاع البريد، ربما لمرة أخيرة، يجب أن يصار الى اختيار أشخاص أكفّاء لوضع الدراسات وإدارة المشاريع الحيوية وتشغيلها كالخدمات البريدية وغيرها بعيداً من المحسوبيات والزبائنية. ربما هنالك دور اساسي في هذا الاطار لرئيس الحكومة، خصوصاً انه ما زال مُصراً على عدم التمديد لشركة “ليبان بوست”.
وتختم المصادر أنه “إذا صفت النيات فعلا، وليس هناك من محاولة لإدخال شركة معيّنة الى قطاع البريد، أو ما يحكى عن تفصيل دفتر الشروط على قياس شركة ما، فكل ما يحتاجه الوزير قرم هو الإقدام وعدم الخوف من اتخاذ قرارات قد تبدو صعبة للوهلة الأولى، إلا انها ستعود بالمنفعة الكبيرة على الدولة والمواطنين على حد سواء”.