لبنان عالق بين “شكليْن” جديديْن لسوريا و”إسرائيل”

/ هيام قصيفي /

 

فتحت حرب غزة الواقع اللبناني على مشهدية جديدة. بعد المتغيّرات السورية، “إسرائيل” في طريقها لأن تصبح “إسرائيل” أخرى نتيجة انعكاس حرب غزة عليها، وعلى مقاربتها لكل وجودها والعلاقة مع محيطها.

ثمّة قاعدة سياسية ينطلق منها سياسيون في مقاربة حيثية لبنان، بما هو أبعد من انعكاس حرب غزة مباشرة عليه. فالقراءة الأوسع مدى تتعلق بمصير الشرق الأدنى بمفهومه الجديد انطلاقاً من حرب غزة، بعد كل ما أفرزته الأسابيع الماضية من تداخلات إقليمية. ومن الطبيعي أن يكون لبنان أولى الدول التي تصيبها التحوّلات، إذ إنه أصبح عالقاً بين مشهدية جديدة تتصل بوضعية إسرائيل الداخلية وعلاقتها بمحيطها الأقرب فلسطينياً والأبعد عربياً، بعدما كان في العقد الأخير على تماس مع حرب سوريا. فهو تعايش بشقّ النفس مع الحرب السورية على وقع متغيّرات كبرى طاولتها عسكرياً واجتماعياً واقتصادياً، والأمر لا يتعلق باستمرار وجود نظام الرئيس بشار الأسد. وبقاء النظام لا يعني بقاء سوريا على ما كانت عليه، قبل اندلاع الحرب فيها وتحوّلها إلى ساحة تتداخل فيها عوامل إيرانية وروسية وأميركية وخليجية، عدا انهيار بنيتها الأمنية والاقتصادية. أصبح لبنان منذ سنوات كبش محرقة الحرب السورية، ولا يزال إلى الأسابيع الأخيرة يعاني من النزف وانفجار قضية النازحين السوريين فيه على نحو غير مسبوق.

مع حرب غزة، أصبحت معاينة وضع إسرائيل تحتاج إلى قراءة مختلفة موازية للكلام عن التطورات العسكرية. فـ”إسرائيل” تبحث عن أجوبة لأسئلة تتعلق بوجودها وباستمراريتها، عدا نقاش أسباب الحرب والفشل العسكري والاستخباراتي. الأسئلة المطروحة تتعلق بمستقبلها في السنوات المقبلة، تماماً كما كانت على الطاولة لأعوام مضت منذ ما قبل إنشاء دولة إسرائيل، وهذا يعني مراحل طويلة أخرى من الصراع في المنطقة من منظار جديد، كما يعني دولة “جديدة” بمفاهيم مغايرة. لذا، اكتمل المشهد اللبناني مع حرب غزة، فأصبح لبنان يتوسط دولتين تشهدان متغيّرات جذرية واحدة منذ سنوات، وأخرى مقبلة عليها تدريجاً، وسط نقاشات لا يُتوقّع الانتهاء منها قريباً. ويضاف إلى ذلك أن لبنان، في العقدين الأخيرين، يعيش على وقع انهيار تدريجي أصبح متكاملاً في السنوات الأخيرة، على صعيد بنيته السياسية والاقتصادية والأمنية، كما يحمل أساساً عناصر قضيتين حساستين تتعلقان مباشرة بملفَّي سوريا و”إسرائيل”، هما الوجود الفلسطيني والنزوح السوري. وكلاهما على تماس مباشر مع أي تطور تفاوضي يتم الترتيب له لمقاربة وضع لبنان. فأي دولة قائمة بذاتها قادرة على مواجهة متغيّرات بهذا الحجم، وها هو الأردن أو مصر وكلاهما لا يعيشان في ظل نتائج حرب طويلة أو يتحمّلان ضغط التجاذبات الطائفية والتدخلات الأميركية والإيرانية، يتخوفان من تبعات ما يجري في غزة. فكيف يمكن للبنان أن يخرج من هذه الحرب حتى لو لم تتمدّد عسكرياً إليه بأبعد ما يجري على الحدود الجنوبية. فضلاً عن أن أي تفاوض سيتم حول غزة، لن يكون حكراً عليها وحدها، لجهة إسرائيل التي سترغب بإبعاد كل ما يمكن أن يشكل تهديداً لها في داخلها أو على حدودها الشمالية، ما يطرح على طاولة التفاوض وضع

حزب الله وموقعه في المعادلة العسكرية والسياسية في لبنان.
المفارقة أنه وسط هذه الصورة، لا يزال في لبنان من يتصرّف بأدوات تقليدية، من دون الأخذ في الاعتبار حجم تحوّل “إسرائيل” الداخلي وانعكاس ما تقوم به في العالم الغربي، إضافة إلى ترقّب تطور علاقاتها مع الدول العربية التي لا يُتوقع أن تنكسر بالسهولة التي يتم الرهان عليها. منذ شهر وإلى الآن، يتعامل لبنان، وما تبقّى من مؤسساته الرسمية، وحتى القوى السياسية، على اختلاف اتجاهاتها، في الإطار الآني فحسب: ترقّب متتال لما سيقوله حزب الله، وموقف إيران من احتمالات توسّع الحرب، وما ينقله الموفدون الغربيون، وإجلاء الرعايا، وانتظار قرار الحرب وتوسّعها. في حين أن النقاش الفعلي يتم في مكان آخر، وأروقة إقليمية ودولية، ليصبح لبنان بذلك مجرّد شاهد ومتلقٍّ لما ستكون عليه سنواته المقبلة، في ظل صراع إقليمي بأدوات جديدة، مع ما يحمله من عناصر خطرة على مستقبل لبنان وموقعه بين دولتين، انقلبتا جذرياً في تاريخهما الحديث.