نعم… مسيحية لبنانية.. ومع فلسطين بالمطلق

| رندلى جبور |

يجادلني كثيرون في انتمائي المطلق إلى القضية الفلسطينية، ووقوفي الثابت إلى جانب فلسطين وشعبها.

لا أفهم لماذا يتفاجأون أصلاً من أنّ مسيحية لبنانية تناصر المكان الأول لمسيحيتها، بل لا أفهم كيف هم لا يفعلون.

هذا المكان الذي اغتصبه محتلّون، ودنّسوا قيامته حتى جعلوها قبراً من صراخ لأكثر من سبعين.

هذا المكان الذي تاجرت به الدول الكبرى وقَبِل بعض الصغار بالفتات، وطردت منه شعبه الأصلي بأسطورة مختلقة لتحقيق مصالح دولية.

هذا المكان الذي تعمّد بالدم، وصار بكليّته جرن معمودية ملوناً بالأحمر.

هذا المكان الذي قسّموا أرضه الواحدة، فصارت أكثر من أرض، وأكثر من شعب، بلا اتصال بين أجزائها وبين أحشائها.

هذا المكان الذي اقتسموا على كرامته وعذريته، وخذله الإخوة قبل غيرهم.

لا يمكنني، بضميري الانساني وحسّي الوطني والمشرقي وقيمي المسيحية، إلا أن أكون مع فلسطين، بحجج ثلاث:

الحجة الأولى هي حجة القلب. والقلب النظيف يتوق إلى المظلوم، لا إلى الظالم. إلى المعتدَى عليه لا إلى المعتدِي، إلى من يدفع حياته، لا إلى من يسرق الحياة. إلى حيث مهد قدسيته المسيحية. إلى حيث كُتبت القيامة لنا جميعاً بفعل حب بطوليّ مارسه بجرأة السيد المسيح على خشبة عار حمّله إياه تجار الهيكل ذاتهم… نعم ذاتهم.

والقلب الشريف يذهب، بلا سؤال، إلى حيث الجواب في صرخات الأمهات، وفي الأطفال الموجوعين، ومع ذلك يرسمون علامة النصر وهم تحت الركام، وفي المقاومين الذين يضعون حياتهم على كفّهم لئلا تضيع أرضهم وتاريخهم والقضية.

والحجة الثانية هي حجة العقل. والعقل هنا يتجانس مع القلب، ويحفظ التاريخ. ويعرف جيداً القوانين والمواثيق ومن يخرقها. ويعلم بوعي الأهداف السياسية والاستراتيجية التي وضعها “وحوش الديمقراطية الملغومة” للقضاء على وجودنا، ولسيطرة حكومتهم العالمية على حسابنا وأملاكنا وحياتنا. بالمال والاعلام والعسكر والعقوبات… والمشاريع المدمرة.

والعقل يدرك جيداً كم من مرة اعتدت “إسرائيل”، وكم من مرة خرقت النصوص واخترقت النفوس برصاصها، ومن يحميها، وماذا فعل حُماتها بكل شعوب العالم، من آسيا إلى أفريقيا، وجنوب أميركا، والشرق الأوسط الشاهد الأكبر ولو كان فيه شهود زور.

والعقل يسأل على ماذا تُصرف أموال الدول الكبرى؟ على السلاح بدلاً من غذاء الفقراء، وعلى الاحتلال بدلاً من السيادة، وعلى القهر والإذلال والاستعباد بدلاً من الحرية، وعلى ضرب الرخاء بدلاً من الإخاء، وعلى سرقة الثروات ورسم خطوط طول وعرض و”كوريدورات” للاستفادة من كل المقدّرات حتى تلك التي ليست لهم.

تُصرف الأموال على “البروباغندا” بدلاً من التعليم والتربية والانتاج، وعلى العملاء بدلاً من العلماء، وعلى المرتزقة بدلاً من أصحاب القضايا.

والحجة الثالثة هي حجة المصلحة. فالجغرافيا ثابتة لا تتغير، ونحن على حدود فلسطين التي حين نُكبت، نُكبنا باللاجئين وبمشروع التوطين. وحين نُكبت، صار السلاح الخارجي بين أرجلنا، وخيضت الحروب على أرضنا أيضاً. فهل نتحمل المزيد من اللاجئين أو حروباً جديدة تهدد وجودنا ومصالحنا؟ وهل نسمح بأن نكون مع “إسرائيل” التي تحتل جزءاً من أرضنا وتعتدي يومياً، بحراً وجواً وبراً، على سيادتنا وأماننا وثرواتنا المائية والنفطية وأرضنا؟

هل نتحمّل المزيد من الاثمان؟

وماذا لو نجحت “صفقة القرن” وأُرسي التوطين؟ وماذا لو أصرّ العدو على تهجير الفلسطينيين من جديد وبقيت أبواب مصر والأردن مقفلة؟

وماذا لو لم نقف مع سوريا الملاصقة لنا جغرافياً أيضاً؟ أما كانت المجموعات الإرهابية المتطرفة وصلت سيراً على الأقدام إلى كعوب أسرّتنا وفجّرتها؟

لا تسألوني بعد الآن لماذا أنا مع فلسطين، بل إسألوا من ليس معها بالقلب والعقل والمصلحة، لماذا هم كذلك؟

نحن من يمكننا اتهام هؤلاء إما بالخنوع والخضوع، وإما بالغباء وإما بالعمالة، ونقطة على السطر!