| جورج علم |
اكتملت المواصفات، وأصبحت “العمارة” العسكريّة الأميركيّة جاهزة غب الطلب. حاملات طائرات، مدمّرات، بوارج حربيّة، أسلحة متطوّرة، وقوات “تدخل سريع”، وماذا بعد؟ وبنك أهداف في خزنة الأسرار، ومجازر ميادنيّة تكتب تاريخ المنطقة بالأحمر القاني…
ويأخذك الخطاب المسعور نحو إزدواجيّة مريبة شعارها الكذب، ودسمها افتراء ورياء. وإذا كانت البوارج لردع التهور، وعدم فتح جبهات جديدة، فلماذا الصواريخ المجنّحة، وقوات التدخل السريع؟ وإذا كان الهدف الإقتصاص من جماعة أو تنظيم، فلما هذه المجازر بحق الأطفال والنساء والشيوخ العزّل؟ وإذا كان المعلن بعدم ترحيل القضيّة عن غزّة، فلما هذه الأرض المحروقة، ولماذا السماح لساديّة نيرون، وهولاكو؟
ومع اكتمال عقد الأسبوع الرابع، تبدو الأزمة أكبر من أبطالها. ليس على المسرح اليوم من أمثال أيزنهاور، وروزفلت، ولا قامة تحاكي وينستون تشرشل، أو شارل ديغول، ولا حركة عدم إنحياز من وزن رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، أو الرئيس المصري جمال عبد الناصر، أو الرئيس اليوغوسلافي جوزيف تيتو، بل مجرد عاديّين نهمين تحرّكهم أهواء، ومصالح، ونزوات تحمل في طياتها شرارات حرب عالميّة ثالثة.
يمضي الرئيس الأميركي جو بايدن ما تبقى من ولايته مأخوذاً بعقدة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. دخل الأخير الى أوكرانيا غير عابئ بالمحاذير والإنعكاسات، فأراد أن يقلّده في الشرق الأوسط زاحفاً بأساطيله ومدمراته إلى بحار المنطقة للإمساك بمفاصل القرار، ولو عن طريق سياسة الأرض المحروقة، مغامراً أو متجاهلاً بأن الشرق الأوسط ليس أوكرانيا. هنا إرث تاريخ مثقل بسلاسل من البراكين المتفجّرة، وجغرافيا محكومة بفواصل الإتنيات، والثقافات، والتنوعات التي تدور كحجر الرحى وتطحن كل ما يستهدف حضورها، أو يمزّق هويتها.
يأتي متضامناً مع “إسرائيل”، متجاهلاً القضية الفلسطينيّة، والحقوق المشروعة. يتعاطف ضدّ إرتكابات “حماس” في فلسطين المحتلة، ويتجاهل مجازر “إسرائيل” في غزّة. يصفّق لسقوط جدار برلين في 9 تشرين الثاني 1989، مدعياً الإنتصار على الفاشيّة والعنصريّة، ليبادر مع مطلع تشرين الثاني 2023 إلى بناء جدار برلين في الشرق الأوسط ما بين الفئويات والثقافات والحضارات.
يملك بنكاً من الأهداف المحمولة على متن البوارج وحاملات الطائرات الهادفة الى فرض إزدواجية مريبة. ينتقد التوغّل الروسي في أوكرانيا، ويدعم التوغل الإسرائيلي في غزّة. يشهّر بـ”الفيتو” الروسي ـ الصيني في مجلس الأمن ضد مشاريع القرارات التي كانت سارية في زمن “الربيع العربي”، فيما يمارس “الفيتو” لإبطال مشاريع القرارات التي تستهدف “الهولوكوست” الإسرائيليّة بحق غزّة، وأهلها.
“بنك الأهداف” لا يزال مجهولاً، فيما الأرض المحروقة معروفة. أهداف لا تتحقق إلاّ على حساب الحرائق، والإبادات، وتمزيق حقائق التاريخ والتلاعب بخطوط الجغرافيا. أما التعليمات فواضحة، غزّة أولاً، وممنوع فتح جبهات أخرى جديدة حتى لا تتشتت نيران العدو، ويبقى التركيز على القطاع دون سواه، لكن ما مصير 2.3 مليون غزّاوي؟ المحرقة؟ الإبادة؟ التهجير؟ وإلى أين؟! مصر أقفلت الأبواب، وقال الرئيس عبد الفتاح السيسي إن سيناء لن تكون البديل لغزّة، حتى ولو أضطر إلى تحريك آلة الحرب… الأردن يرفض تلقف كرة النار. الملك عبد الله الثاني يقود أوسع حملة دبلوماسيّة على مستوى عواصم دول القرار كي يجنّب بلاده شرب هذه الكأس المسمومة. لبنان، لا حول له ولا قوة، وما فيه يكفيه. 2 مليون نازح سوري. نصف مليون لاجئ فلسطيني. أزمة ماليّة غير مسبوقة، أزمة إقتصاديّة وضعت ما نسبته 60 بالمئة من شرائح المجتمع تحت خط الفقر. أزمة سياسيّة شرّعت مؤسسات الدولة أمام جائحة الفراغ. لا رئيس للجمهوريّة. لا حكومة دستوريّة فاعلة، بل مستقيلة تقوم مكرهة بتصريف الأعمال ضمن نطاق ضيّق، ومجلس نواب منقسم على نفسه عموديّاً، مشلول الحركة، معدوم الإنتاج.
يمنّن رئيس البوارج الحربيّة الأميركيّة اللبنانيّين بالهدوء. يؤكد على أنه أجرى ما يكفي من الإتصالات كيلا ينجر لبنان إلى أتون الحرب، وتبقى جبهة الجنوب ضمن سقوف منضبطة. ولكن ما هي الضمانات في ظل الإنقسام المصيري بين اللبنانييّن حول الحرب واللاحرب. وفي ظل المؤسسات التي ينعق في زواياها بوم الفراغ؟ ثم ماذا لو اقتضى “بنك الأهداف” الأميركي أن يتحوّل لبنان إلى أرض محروقة لتحقيق خريطة الطريق المرسومة؟!…
وما بين أرض محروقة، وإرادة مسحوقة، تبقى البوابة اللبنانيّة مشرّعة أمام كل الإحتمالات…