| جورج علم |
تكفي دعسة ناقصة، كي يحصل الإنزلاق من أعلى السلّم إلى الحضيض. ما يجري في غزّة أبعد من حرب إبادة، كاد المشهد المتوحّش أن يتحوّل إلى مواجهات مفتوحة بين أتباع ثقافات، وحضارات متمايزة.
الرئيس التركي رجب الطيّب أردوغان ضرب على الوتر الحسّاس، رفض زيارة إسرائيل. رفع لهجة الخطاب ضدّ المجازر في غزةّ. أعطى إشارات واضحة حول صراع الحضارات.
خرجت الحرب عن سياقها المعلن. لم تعد بين “الاحتلال” و”حماس”، بل تحوّلت إلى إبادة شاملة، لوأد القضيّة، وهيمنة ثقافة عنصريّة على أخرى متجذّرة في التاريخ والجغرافيا.
ذهبت ملكة الأردن، رانيا العبد الله، نحو الأبعد، وضعت الأصبع على الجرح، وسمّت الأمور بأسمائها في مقابلتها مع شبكة “سي أن أن” الأميركيّة: “يسقط عنصر في إسرائيل، يهبّ الغرب مستنكراً، شاجباً. يُباد شعب بقصف حاقد متعمّد، فيصمت العالم!”.
إزدواجيّة عمياء، حاقدة، لا تقيم وزناً لحقوق الإنسان. والدول التي تنادي بها، وتدّعي الحرص عليها، هي الأكثر فظاظة في إنتهاكها.
جاء الرئيس الأميركي، في زيارة مغرضة، يعلن تعاطفه مع “إسرائيل”، فلحق به تباعاً كبار زعماء الإتحاد الأوروبي “مقلّدين” متعاطفين، وأعلنوا على الملأ “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، لكن لم يُسمع من بينهم صوت واحد يقول “يحقّ للفلسطينييّن الدفاع عن أنفسهم”!
إزدواجيّة نافرة بكل المعايير، لكن في الأفق متغيّيرات.
لم يرسل الأميركي مراكبه محمّلة بحنطة السلام إلى موانئ الجياع في غزّة، بل أرسل بوارجه محملّة بآلات الموت والدمار. يملك بنكاً من الأهداف يريد تحقيقها. مع وصول بوارجه إلى المتوسط، لم تعد الكلمة لبنيامين نتنياهو وحكومته، بل لغرفة العمليات الأميركيّة على متن حاملة الطائرات التي تحدّد الأهداف، وتُصدر أمر العمليات.
الحرب، خيار مفتوح. لكنها ليست ملزمة للإدارة الأميركيّة. الأولوية للدبلوماسيّة، وما يمكن إنتزاعه عن طريق الحوار، أفضل من إنتزاعه عن طريق القوّة، وتوسيع دائرة الحروب والمواجهات.
قدّم مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان إحاطة للرئيس بايدن مختلفة تماماً عن الوضع السائد. حذّر من الغليان في الشارع العربي والإسلامي ضدّ الولايات المتحدة، نتيجة الدعم الذي تقدّمه لـ”إسرائيل” المسترسلة في حرب الإبادة في غزّة. أكدّ أن الدبلوماسيّة المتوازنة هي التي تحمي المصالح الأميركيّة في الشرق الأوسط، والعالمين العربي والإسلامي، وليس فائض القوة. حذّر من أن الصراع بدأ يخرج عن مساره ويتحول إلى صراع ديني، عقائدي، ثقافي، مع ما يعني ذلك من تداعيات خطيرة، ليس في الشرق الأوسط، ولكن داخل كل دولة من دول التحالف الداعمة لـ”إسرائيل”، والسياسات التي ينتهجها اليمين اليهودي المتطرف. تخوف من إنهيار كل المكتسبات التي حققتها واشنطن خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب، وولاية الرئيس بايدن والمتصلة “بالصندوق الإيراهيمي”، وإتفاقيات التطبيع بين “إسرائيل” والعديد من الدول الخليجيّة ـ العربيّة، وتخطي الضوابط التي حققتها إتفاقات السلام مع كل من مصر، والأردن، والسلطة الفلسطينيّة.
بالمقابل، ومع وصول البوارج الأميركيّة إلى المتوسط، ظهرت مؤشرات، منها:
• أعاد الرئيس بايدن النظر في خطابه الداعم لـ”إسرائيل” في حربها ضد “حماس”. كان التأييد مفتوحاً من دون شروط. اليوم يؤكد على ضرورة أن تحترم قانون الحرب الذي يحظّر إستهداف المدنييّن.
• أرجأ الهجوم الإسرائيلي البريّ ضدّ غزة. الأميركيّون يقولون بأنه “أمر”، فيما حكومة بنيامين نتنياهو تقول بأنه “نصح”، وطالب “بالتريث”.
• أخذ علماً بأن المجتمع الأميركي لم يعد موحداً تجاه السياسة المنحازة، على خلفية فظاعة المشاهد التي تنقلها الفضائيات عن مجازر الأطفال، والنساء، والشيوخ في غزّة. حاول أن يهدئ المشاعر بالقول إن أعداد الضحايا التي يعلنها الهلال الأحمر الفلسطيني مبالغ فيها، الرقم من منظاره ليس كذلك…! لكنّه لم يكن مقنعاً.
• جعل قضية الإفراج عن الأسرى في الصدارة، وتتقدم على سائر الأولويات الأخرى. واعتمد طريق المفاوضات للوصول إلى نتائج مرضية. زيارة وزير خارجيّة إيران حسين أمير عبد اللهيان إلى واشنطن لا هي للسياحة، ولا هي للإستجمام، هناك مسار تفاوضي يجب أن يستكمل للإفراج عن الأسرى الأميركيين، وكافة الأسرى، والنظر بالشروط التي تضعها “حماس” لتسهيل المهمة، وهي شروط قاسيّة تتناول المساراتّ الأمنيّة، والسياسيّة، والإقتصاديّة، والإنسانيّة، والمصير، والمستقبل، وإعادة إعمار ما تهدم في غزّة… وإذا وافق بنيامين نتنياهو سابقاً على إطلاق سراح 1027 أسيراً فلسطينيّاً مقابل الإفراج عن جلعاد شاليط، فما هو العدد المطلوب، وفقاً لهذه المعادلة، لكي تفرج حماس عن 225 أسيراً لديها؟
زيارة الوزير عبد اللهيان إلى واشنطن تؤكد بأن مسار الدبلوماسيّة مفتوح على مصراعيه، فهل ستحقق “دبلوماسيّة البوارج” بنك الأهداف الأميركي مع إيران، والذي عجزت عن تحقيقه “دبلوماسيّة الأوعية المتصلة” التي كانت سائدة ما بين مسقط، والدوحة، وجنيف، وواشنطن، ونيويورك… وعواصم أخرى؟!