| جورج علم |
ينام الطفل في أرجوحة الأيام اللبنانيّة، ويحلم، هل من موعد في الصباح مع عبوة حليب، أم مع عبوة ناسفة؟ لا جواب. لا حياة لمن تنادي. لا أحد سوى الفراغ، ومتى كان الفراغ عماد الديمقراطيّة، وحامي حماها؟ هناك رئيس في سرايا مستقيلة، يعدّد عواصم الدول التي يتواصل معها لتجنيب لبنان ويلات الحرب، وهناك حزب يعدّد أسماء شهدائه الذين سقطوا على خطّ المواجهة…
إزدواجيّة برأسين، ولسانين، ومنطقين، وتوجهين، فيما الجنازة حاشدة، والمأتم مريع.
يطلّ علينا بعض مسؤولي الدول من شرفات مصالحهم، ناصحين بعدم التهوّر، حجّتهم أن الإنزلاق هذه المرّة سيكون خطيراً ومكلفاً، فيما يتحرّك سفراؤهم ناصحين الرعايا بالمغادرة الفوريّة تحت طائل المسؤوليّة.
إنها ازدواجيّة الدبلوماسيّة المخادعة التي ترقص على كفّ عفريت!
في الأمس القريب، كانت وزيرة الخارجيّة الفرنسيّة، بعدها نظيرتها الألمانيّة، وكرّت السبحة، مواكب أوروبيّة من وزراء خارجيّة، ودفاع، يطوفون على بقايا دولة ومؤسسات، يستمعون، ينصحون، ويغادرون مع رزمة من الإنطباعات والملاحظات… منها:
أولاً: إن هذا الحراك أملته الزيارة ـ المصلحة التي قام بها الرئيس الأميركي إلى تل أبيب، متضامناً. حاول الأروربيّون اللحاق بالركب. هكذا دورهم. وهكذا تقضي مصالحهم، وجعلوا من بيروت مجرّد محطة.
ثانياً: لهم في الجنوب قوات عاملة تحت راية الأمم المتحدة، في نطاق “اليونيفيل”. يقال بأن لهذه القوات دور مختلف في المستقبل، ومهام كبرى تقتضيها المتغييرات على الساحة اللبنانيّة.
ثالثاً: لبعض هذه الدول ما هو أبعد من الرعايا. لها مؤسسات تربوية، وثقافيّة، وصحيّة، واقتصاديّة ـ إنمائيّة، وتطلعات مستقبليّة، ولذلك هي مهتمّة، ومتابعة، خوفاً على المصالح بمقدار خوفها على لبنان.
رابعاً: هناك شيء ما أبعد من النصائح، والمخاوف. الأوروبيّون متيقنون بأن الولايات المتحدة التي استثمرت طويلاً بالفراغ، تريد الآن أن تستثمر في ملئه. لبنان ذو الوجهين واللسانين والتوجهين، قابع على خطّ الزلزال العنيف الذي يضرب المنطقة… لم يعد يناسبها، وينسجم مع حساباتها الجديدة. وذلك لأسباب، منها:
• إن مصالحها في دول محور الممانعة دخلت دائرة الخطر، وأصبحت مستهدفة بعد تعاطفها الكلّي وغير المسبوق مع الإحتلال الإسرائيلي، وجرائمه في غزّة.
إن حضورها في العالم العربي، والإسلامي قد يكون مستهدفاً أيضاً، وعلى قاعدة “التطرّف.. يقابله تطرّف”.
• إن المسيرات الإحتجاجيّة التي زنّرت مجمّع السفارة الأميركيّة في عوكر، قد تتكرّر، وقد تخرج عن طابعها المألوف، وقد تتحوّل إلى حرب شوارع، وربما ما هو أدهى…
والإستثمار بالفراغ أصبح في عهدة الجماعات الراديكاليّة الرافضة، الثائرة، صاحبة الأهواء والمشاريع المشبوهة…
في الأمس القريب خرجت المسيرات إلى عوكر تحت شعارات الانتصار لغزّة، وتحرير فلسطين، وكانت النتيجة الإعتداء على الأملاك الخاصة، وتحطيم واجهات المحلات التجاريّة، ونهب ما خفّ حمله وغلا سعره! وتركت علامات استفهام كبرى على باب السلم الأهلي، وحائط برلين اللبناني الذي يعلو مدماكاً فوق مدماك مع كل صباح، ومطلع كل شمس…
• .. وفي الأمس القريب، وعلى وقع المسيرات والمظاهرات، تحوّل مجمّع السفارة في عوكر إلى غرفة عمليات، إلتحق ويلتحق به اختصاصيون من رتب عسكريّة ومدنيّة أميركيّة، تحت شعار رصد المستجدات.
ومن المستجدات التي يُحكم رصدها، إمكانيّة إعادة الإمساك بالبلد من “بابوجه حتى طربوشه”، والسعي إلى تسويق الخيار الثالث، وانتخاب رئيس للجمهوريّة، والانطلاق إلى ملء سائر الفراغات في مؤسسات الدولة، من اعتماد رئيس ديناميكي للحكومة إلى حكومة من أهل الاختصاص، إلى تعيين مراكز الفئة الأولى، إلى… لمواكبة المرحلة التاريخيّة ـ المصيريّة التي تجتازها القضيّة الفلسطينيّة، و”إسرائيل”، ومحور الممانعة، والشرق الأوسط بوجه عام…
ويركّز بعض الإعلام الأميركي على لبنان في هذه الفترة من زاويتين:
– إنه مصلحة أميركيّة عليا من حيث موقعه، ومن حيث دوره، ولذلك كان القرار بأن يحضن أكبر سفارة للولايات المتحدة في المنطقة، وربما في العالم.
– إن الفراغ أدى إلى الفوضى، والفوضى مكّنت محور الممانعة من أن يأخذ لبنان إلى حيث يريد، والواقع القائم ميدانيّاً خير دليل. لذلك، وبعد زيارة الرئيس الأميركي إلى تل أبيب، بدأت حسابات أميركيّة جديدة في المنطقة، ولبنان ضمناً، وعلى قاعدة: “حيث يمكن.. لا يمكن للفراغ أن يستمر”.
الأوروبيّون، أخذوا علماً، ولذلك يشهد لبنان منذ الأمس القريب، واليوم، وربما غداً، مواكب أوروبيّة من وزراء خارجيّة، ودفاع، يطوفون على بقايا دولة ومؤسسات، يستمعون، ينصحون، ويغادرون، ليرفعوا التقارير، على أمل أن يكونوا شركاء في “الجبنة” التي “يُصنّعها” الأميركي للبنان!