برّي والمسيحيّون: تقاطع الغياب في أزمة مصيرية

/ هيام القصيفي /

فيما تدور المعارك على الحدود اللبنانية الجنوبية، وفي وقت ارتفعت فيه وتيرة التحذيرات الديبلوماسية من مخاطر انتقال الحرب الى لبنان، كانت قيادتا التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية منشغلتين بمعركة الانتخابات الطالبية في NDU وUSJ. معركتان “مصيريتان” في العمل السياسي لكل منهما ولمستقبل لبنان، فيما أهالي الجنوب – وبينهم مناصرون للحزبين – ينزحون بالمئات الى مناطق أكثر أماناً، وفيما مصير البلد كلّه معلّق على احتمال انتقال الحرب إليه.

بعد أسبوعين على الحرب الدائرة في غزة، وعلى العمليات العسكرية عند الحدود الجنوبية، يشكل الغياب التام للقوى المسيحية أحد العناوين الرئيسية. إلا أن هناك غياباً أكثر وضوحاً وأهمية، هو دور الرئيس نبيه بري، ليشكل غياب الطرفين – كل من موقعه – مفارقة في المشهد السياسي.

عام 2006، ومع بدء حرب تموز، أدّى بري دوراً محورياً، الى جانب حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، في المفاوضات التي جرت حينها لوقف الحرب والذهاب الى مجلس الأمن ورعاية وقف العمليات القتالية، بحسب ما نص عليه القرار 1701. لم يكن بري مشاركاً في قرار الحرب حينها، لكنه كان جزءاً أساسياً من المفاوضات، وما أسفرت عنه، وهو كلام سبق أن ردّده الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أكثر من مرة منذ ذلك الوقت، ولا سيما عند أي محاولة لدقّ الاسفين بينهما. حافظ بري، الذي كان قد بدأ قبل الحرب برعاية طاولة الحوار، على جسور مفتوحة مع قوى 14 آذار من أجل تخفيف الانعكاسات الداخلية للحرب ونتائجها.

المفارقة أن كفّة الميزان في المقارنة بين ما يجري اليوم وما حدث حينها، تصبّ لمصلحة دور بري عام 2006، فيما يبدو دوره، اليوم، محصوراً بتلقي رسائل التحذير الخارجية الى حزب الله لمنع انجرار لبنان الى الحرب. رغم التسليم بأن قرار الحرب ليس محلياً، وليس للبنان الرسمي صلة به، ويكفي النظر الى أداء الحكومة والجيش الذي لا تشغل قيادته حالياً إلا إيجاد مخرج للتمديد للعماد جوزف عون مع اقتراب إحالته على التقاعد. مع ذلك، فإن إعلاء دور بري في الملف الرئاسي لأشهر طويلة مرّت، وفي صياغة مخرج الجلسات النيابية لانتخاب رئيس أو لتشريع الضرورة، يناقض تماماً الموقع الحالي، الذي وإن حافظ عليه رسمياً في استقبال الزوار الديبلوماسيين المعنيّين، إلا أنه منحسر عن المعتاد. ولا تميّزه إلا محاولة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق، وليد جنبلاط، معه إيجاد سبل لمنع انزلاق لبنان نحو الحرب.

لكن كليهما يبدوان خارج القرار الإقليمي بتحييد لبنان أو إدخاله في الحرب. والكلام عن هذا الانكفاء لا يمسّ العلاقة بين بري وحزب الله، لكن التعويل على دور رئيس المجلس الذي أدى دور المفاوض تارة، ودور مقترح التسويات تارة أخرى، محلياً وخارجياً، يعطي فرصاً سانحة للخروج من دوامة الأزمات المتشابكة التي وصلت بعد الانهيار المالي والاقتصادي والسياسي، في غياب رئيس الجمهورية، الى نقطة تتعلق بمستقبل لبنان وليس فقط بمصير وحدة الساحات، إذ إن ثمة هامشاً يميّز لبنان عن باقي الساحات التي قد تدخل المواجهة مع إسرائيل، من اليمن الى العراق وسوريا، يتعلق بالموازييك السياسي الطائفي الذي يجعل قرار الحرب، هذه المرة، مختلفاً بمفاعيله، عن حرب تموز. ونتيجة حدّة الانقسام الداخلي وعدم وجود قنوات حوار فعلية لتطويق ذيول الانعكاسات المتوقعة، يفترض الحاجة الى عناية سياسية أكبر في احتواء أيّ توتر داخلي، وخصوصاً بعد الأحداث الأخيرة وردود الفعل على احتمال تمدد الحرب الى لبنان.

ورغم التعويل على إعادة بث الحياة في تحرك بري داخلياً، تبقى ثغرة أساسية في عدم وجود من يلاقيه، عدا عن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وجنبلاط. والكلام هنا عن القوى المسيحية – المارونية في هذا التوقيت، باعتبار أنها تدّعي دوماً أنها “أمّ الصبي”. فحتى الآن، يكون قد انقضى أكثر من شهر ونيّف على غياب البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في أستراليا، ومن ثم روما. بين زيارة هدفها جمع التبرعات المالية لبكركي والترويج لبعض المنتفعين وزيارة سينودوسية شكلاً، تغيب بكركي عن أخطر حدث يواجه لبنان في سنواته الأخيرة بخفّة غير مسبوقة لتعامل بكركي ومجلس المطارنة والمؤسسات الرهبانية مع ما يجري بمسؤولية وطنية. وهذا لسان حال كثيرين من داخل هذه المؤسسات وخارجها. أما القوى المسيحية فتعيش حالة انفصال تامّ عن المجريات الراهنة، لأن صوت القصف المدفعي لم يصل الى معراب أو البترون، وبين انتخابات طالبية في «بيروت الشرقية» بمعناها السياسي، دخلت قيادات الأحزاب بقوة فيها، والاحتفالات المناطقية بذكرى 13 تشرين، والمهاترات حول اغتيال رئيس حزب الوطنيين الأحرار داني شمعون، فقد الموارنة المبادرة لمصلحة حالة عبثية وعدم التعامل بجدية مع خطورة الحدث الذي لم يحصل فجأة من الوجهة السياسية، لا العسكرية. فكل مسار الوضع في المنطقة أوصل الى النقطة الحالية من مجريات تفاوضية تضع لبنان على خطّ مفصلي، لأن على أساسها يرسم مستقبل لبنان، وقد تؤدّي نتائجها الى تسويات لن تلحظ حكماً الذين يغيّبون أنفسهم.