رسائل الحرب.. واللا الحرب!

| علاء حسن |

هُزمت اسرائيل في ساعات. تلقت أقوى مباغتة منذ ما يناهز نصف قرن. الكيان الذي كان يتحدى دول الشرق الأوسط مجتمعةً، هزمته مجموعة مقاومين لا يتعدى عددهم المئات، فتوغلوا إلى عمق عشرة كيلومترات داخل ما يسمى بـ “غلاف غزة”. بلغ عدد القتلى الصهاينة المئات، وحتى كتابة هذا المقال فقد تعدى العدد ألفاً، فضلاً عن أسرى من بينهم ضباط عسكريين وأمنيين رفيعي المستوى، الكثير الكثير من الوثائق الاستخبارية… لكن كل هذا ليس ذو أهمية أمام صفعة الفشل الاستخباري ـ العسكري الذي هز أعمدة الكيان وخلخلها حتى نخاع العظم.

وأمام هذا الطوفان، لم يجد قادة الكيان سوى صب جام إجرامهم وغلّهم على الأبرياء العزل في قطاع غزة، من خلال قصف عنيف غير مسبوق طال الأبنية والمساجد والدور السكنية وحتى المستشفيات، في محاولة منه لترميم كفة الهزيمة وإعادة شيء من التوازن إلى الصورة العاكسة لانهياره وانكساره.

وأعلن العدو الإسرائيلي أنه قطع إمدادات الماء والكهرباء والفيول، وغيرها من أوليات الحياة، عن قطاع غزة، إمعاناً منه في الانتقام الجمعي، من دون مراعاةٍ لأي أصول قانونية أو أخلاقية أو إنسانية.

على أنه لو استطاع هذا الكيان فعل المزيد، لفعل، ولكن تصريح رئيس وزرائه والذي تحدّث فيه عن “مواصلة تعزيز الدعم الدولي للحفاظ على مساحة عملنا ضد أعدائنا”، في معرض حديثه عن الاجراءات التي يعمل عليها الكيان الصهيوني رداً على عمليات المقاومة الفلسطينية، فإنه كشف بكلامه أنه لم يحصل بعد على غطاء ودعم دوليين يسمحان له بالتصعيد أكثر، وصولاً إلى عملية واسعة يكون هدفها سحق المقاومة، كما عبّر عنها نتنياهو بعبارة “سيبقى صداه إلى سنوات”، وأن ما سيفعله جيش الاحتلال “سيغير الشرق الأوسط”.

كي نشاهد الصورة كاملة، يجب التدقيق في مجمل الأحداث والمواقف التي حصلت خلال الأيام الماضية، والبناء عليها لفهم مجريات الأمور.

أولاً، إن تأخر الرد البري الصهيوني لغاية اليوم، وإن صح خبر خروج المقاومين من منطقة الغلاف والعودة إلى القطاع وفق ما أعلنه الجيش الصهيوني، فإنه يدل على أن جيش الاحتلال غير متيقن من قدرته على هذه الخطوة، وإلا لما صرح نتنياهو بأن الأمر يستغرق أياماً، ذلك أنه من المفترض أن تكون الخطط جاهزة والقوات مدربة، خصوصاً في ظل التفوق الجوي والمدفعي الذي يمتلكه العدو، لكون العملية المزمع تنفيذها لا تجري مع جهة أو دولة مرت عقود على السلام بينهما حتى نقول أن التخطيط والتنفيذ يستغرقان وقتاً طويلاً.

أضف إلى ذلك عبارة “مواصلة تعزيز الدعم الدولي”، وهي تعني أن الدول الكبرى لم تعط كيان الاحتلال الضوء الأخضر بعملية قد تغير من وجه المنطقة، لغاية اللحظة طبعاً.

أضف إلى ذلك، أن مجمل التصريحات الغربية، وبخاصة الأميركية، كانت تتحدث عن الدعم المالي وليس العملاني أو الإمداد بالسلاح والذخيرة، وهذا يعني، بحسب المعلومات، أن الولايات المتحدة تسعى إلى عدم اتساع رقعة الصراع الحالي، لانشغالها بأولويات أخرى على مستوى المنطقة والعالم تتضارب مع تغييرات بنيوية في منطقنتا في الوقت الراهن.

وفي المقلب الآخر، نجد أن قوى المقاومة، وعلى رأسها المقاومة في لبنان، كانت حذرة جداً في التعامل مع المشهد، ففي حين أنها لم تقف مكتوفة الأيدي إزاء ما يحصل، إلا أنها أرسلت رسائل غاية في الدقة والعمق إلى قادة العدو الذي تلقفها وتعامل معها وفقاً لذلك. فأولى العمليات كانت ضمن الأراضي اللبنانية المحتلة، وأتت بعدها عملية حركة “الجهاد الإسلامي” للقول إن المقاومة الفلسطينية سيكون لها نصيب في ساحة الشمال، وبالتالي بقي الصراع فلسطينياً ـ اسرائيلياً.

في المقابل، جاء الرد الصهيوني على العمليات غير عشوائيٍ أيضاً، وحاول أن لا يستفز المقاومة إلى ردود أقسى تستدرج ردوداً وتنتهي بفتح معركة ومن ثم حرباً مفتوحة.

وبالعودة إلى الولايات المتحدة التي تعلم أن أي تغيير بنيوي في المنطقة سوف يترك تأثيراً لا يمكن توقع نتائجه على الاقتصاد العالمي، الأمر الذي سوف يترك أثره السلبي على الدول المتقدمة أكثر بكثير منها على دول العالم الثالث والجماعات التي لا تقوم اقتصاداتها على الدورة الاقتصادية بالكامل (تتأثر منها)، فإنها تميل إلى الحفاظ على قواعدها في المنطقة وعدم المساس بوجودها هنا.

وعليه، فإنه في المحصلة، اذا استطاع نتنياهو السيطرة على الوضع الداخلي وابتزاز الغرب في الحصول على الدعم المالي لتحسين اقتصاده المريض، وتوجيه ضربة برية محدودة تؤدي إلى فتح باب التفاوض على شكل الصراع المقبل وسقفه، ومن بينه ملف الأسرى، فإن هذه الجولة العميقة سوف يتم احتواؤها في الأيام المقبلة، ليتفرغ بعدها كلا الطرفين إلى الترميم.
المقاومة تعمل على ترميم قدراتها، والكيان يعمل على ترميم بنيته المتهالكة، وهي بالنسبة له مسألة سنوات لا أشهر.
أما إذا ما قام بعمل خارج المألوف، فإن كرة النار ستتدحرج في المنطقة، وسوف يتغير شكلها بالتأكيد في نهاية المطاف، ولكن ليس كما يراها نتنياهو بالتأكيد.