قرقعة السلاح للحرب أم للصفقة؟

/ طوني عيسى /

إذا كانت عملية «طوفان الأقصى» هي فعلاً 11 أيلول “إسرائيلي”، خصوصاً لجهة عنصر الصدمة وحجم الخسائر، فهذا يعني أنّ حجم الصدمة المعاكسة لهذا «الطوفان»، على مستوى الشرق الأوسط، قد يوازي حجم الصدمة المعاكسة التي أحدثَها 11 أيلول. ولذلك، يبدو طرفا المواجهة الأساسيان، “إسرائيل” من جهة، وإيران و»حماس» و»حزب الله» في المقابل، في لحظة التحضير للدخول في القرارات الكبيرة.

أول ما يجدر التفكير فيه هو السياق السياسي الذي دفع «حماس» إلى تنفيذ عمليتها الضاربة. ففي تقدير الخبراء أنّ إعداد هذه العملية استغرق وقتاً طويلاً واستدعى جهداً هائلاً وبراعة عسكرية فائقة، بحيث ان الخطة كانت جاهزة للتنفيذ قبل فترة، في انتظار اللحظة السياسية المناسبة.

وهذا يعني أن «حماس» تمكنت من التحلي بالصبر والتزام أقصى درجات الدقة والسرية طوال فترة التحضير للعملية وبعد الانتهاء من ذلك. وهذا الامتياز سمح لها بتنفيذ ضربة لـ”إسرائيل”، لا سابق لها منذ قيامها عام 1948.

طبعاً، في النزاع التاريخي المرير مع دولة احتلال ترتكب الممارسات منذ عقود، يصبح بديهياً انفجار الغضب بقوة لا حدود لها. فمن الواضح أنّ “إسرائيل” تجنبت طويلاً أي اعتراف بالشخصية الوطنية الفلسطينية، ولذلك هي ترفض تماماً قيام دولة فلسطينية، وتعمل للشتات والتوطين الفلسطيني في دول أخرى. بل هي تنفذ مخططاً يهدف إلى ابتلاع كل الضفة الغربية وتكريس القدس عاصمة لها، وإخضاع غزة.

وهذه الممارسات لا تبرر تنفيذ عملية في غزة فحسب، بل يبدو بديهياً أن تستنفر الشعب الفلسطيني، في كل مكان، في انتفاضة تستخدم كل الوسائل المتاحة، ولا تنتهي حتى استعادته حقوقه الوطنية.

لكن هذه الانتفاضة لم تنطلق كما يُفترض. وفي الواقع، تم إنهاك الفلسطينيين على مر العقود، وتآمر عليهم كثيرون، وتم إقحامهم في نزاعات الدول والمَحاور والأنظمة، فضاعوا وأضاعوا الطريق. ويمكن القول إن المقاومة الفلسطينية خمدت تقريباً، إلى ان فاجأت «حماس» العالم بعمليتها في غزة.

ولكن، يجدر طرح السؤال: ما الذي دفع «حماس» إلى ضبط ساعة «الطوفان» على هذه اللحظة السياسية تحديداً، ما دامت تملك زمام المبادرة لتنفيذ عمليتها في أي لحظة، سابقاً أو لاحقاً؟ وتالياً، ما الأهداف القصيرة المدى والبعيدة المدى التي تريد تحقيقها؟

اللحظة السياسية التي تم فيها تنفيذ العملية واضحة، على الأرجح: بنيامين نتنياهو في مأزق سياسي داخلي، السلطة الفلسطينية فاقدة تماماً للمبادرة، إدارة جو بايدن- في الوقت المستقطع للحرب في أوكرانيا- توجهت إلى الشرق الأوسط لسد الطريق أمام الصين، بإغراء المملكة العربية السعودية بمكتسبات استراتيجية من أجل تقريبها من إسرائيل، وإبرام صفقة مصالح مع طهران تخفف من ارتباطها بموسكو وبكين.

بعض المحللين يعتقد أن إيران استفزّها قبول واشنطن المحتمل تزويد السعودية قدرات نووية، ولو سلمية، فتشكل منافساً نووياً لها في الخليج، حيث لإيران نفوذ وحلفاء استراتيجيون.

كما يستفزها تطبيع أكبر دولة عربية وإسلامية مع “إسرائيل” بحيث تصبح موجودة شرعاً في قلب الخليج والعالمين العربي والإسلامي، وفي مقابل وعدٍ جديد بإنشاء دولة فلسطينية.

لذلك، في رأي هؤلاء المحللين، أرادت إيران من هذه الضربة أن تحبط أي صيغة تفاهم حول الدولة الفلسطينية الموعودة، وتالياً قطع الطريق أمام الصفقة المحتملة بين الثلاثي: الولايات المتحدة والسعودية و”إسرائيل”.

ولكن، هناك قراءة أخرى معاكسة. فثمة من يعتقد أن إيران تريد من هذه الضربة رفع السقف إلى الحد الأقصى قبل دخولها، هي نفسها، في صفقة مع الولايات المتحدة. فبعد «طوفان» غزة، باتت المبادرة فلسطينياً في يدها من خلال «حماس»، فيما لم يُسمع صوت للسلطة الفلسطينية. وهذا الواقع يكرّس موقع «حماس»، ومِن خلفها إيران، كمُحاور وشريك في أي تسوية مع “إسرائيل”.

بعد اليوم، لا يمكن للولايات المتحدة أو العرب أو سواهم أن يفكروا في أي تفاهم بين “إسرائيل” والفلسطينيين أو أي طرف عربي إلا بعد الوقوف على رأي طهران. وهذا يعني أن إيران، بعد «طوفان» غزة، صارت شريكاً في أي صفقة يبرمها “الإسرائيليون” والأميركيون في الشرق الأوسط.

ربما هذا الأمرلا يزعج إدارة بايدن الساعية دائماً إلى اجتذاب إيران إلى الطاولة، لكنه طبعاً يُقلق “إسرائيل”.

ولذلك، سارعَ الرئيس الأميركي إلى إطلاق أقوى التطمينات لـ”إسرائيل”، مشفوعة بحاملة الطائرات «جيرالد فورد».

فما فعلته صدمة غزة هي أنها جعلت إيران في قلب القرار الشرق أوسطي. وفي ظل هذا المعطى، يبدو الوضع هناك عند مفترق حاسم: إما حرب كبيرة وإما صفقة كبيرة. ولكن، لا مانع في أن تتكفل الحرب الكبيرة في إنضاج الصفقة الكبيرة.

الآن، تنصرف “إسرائيل” إلى استيعاب تعقيدات مأزقها في مسائل الأمن والخسائر الفادحة وكارثة الأسرى. وأما إيران فتستعد للتلويح بأوراق القوة التي ربحتها

وهكذا، على قرقعة السلاح بين “إسرائيل” وحلفاء إيران في غزة ولبنان، ثمة أيام ثقيلة قبل حسم الاتجاه: هل هي الحرب الكبيرة من أجل الحرب، أم هي الحرب الكبيرة من أجل التفاوض وإبرام الصفقة الكبيرة؟