لبنان يغرق في 9 ملّم من الأمطار!

/ فؤاد بزي /

الصيانة السنوية، الجهوزية، هيا بنا نسبح، سنغرق حتماً، فيضانات وسيول… هذه بعض من عناوين نُشرت في السنوات الماضية عن اختناقات الشتوة الأولى. بعضها يعود إلى عشر سنوات. ما يحصل ليس حدثاً مفاجئاً، إنما تكرار لحدث متوقّع. نسبة الحدوث مرتفعة ويمكن تحديدها بهامش زمني ضيّق جداً، وهذا ما يرفع القدرة على تجنّب الحدث، ولا سيما أن فترة الجفاف التي تسبقه تمتدّ لنحو أربعة أشهر أو أكثر. رغم ذلك، تتحوّل الطرقات إلى مستنقعات تتجمّع فيها مياه المتساقطات إلى جانب النفايات بسبب ضعف قدرة التصريف. كيف يحصل ذلك؟ لا أحد يملك إجابة واضحة. توزّع المسؤوليات على لا مواقع القرار اللامركزية بين الدولة وسلطات الأحياء ونفوذ الطوائف يتيح لقوى السلطة استبدال تحمّل المسؤوليات بتقاذفها. ربما في نظرها يضفي ذلك نكهة على حدث يكاد تكراره يكون مملّاً. فالمستنقع الذي يظهر في لحظات الشتوة الأولى ثم يختفي بعد ساعات مخلّفاً أضراراً مختلفة، هو ليس المستنقع الوحيد الذي صنعته قوى السلطة لمواطنيها. فعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، أُنفقت مليارات الدولارات لإيهام المقيمين في لبنان بأنهم يعيشون في رفاهية تامة لا تستدعي أي تطوير وتصميم للبنية التحتية، لأن مجالس الطوائف من مجلس الإنماء والإعمار، إلى مجلس الجنوب، إلى الهيئة العليا للإغاثة وسواها، تقوم بما يلزم. أيضاً قيل إن الليرة قوية وإن ذلك لا يستدعي تصحيحاً للأجور، وعندما انهارت وظهر المستنقع النقدي، تكرّر المشهد لتصبح الليرة مجدّداً مستقرّة وستعود أقوى! أما الودائع فهي أيضاً مقدّسة وستعود رغم أن المصارف لا تملكها، لا ضرورة لنقل عام لأن السيارات متوافرة بكثرة، لا ضرورة للكهرباء لأن المولّد موجود، الطبابة والاستشفاء “على مدّ عينك” وبدلاً من صندوق واحد ضامن هناك صناديق (وكلّها أفلست!). ثمة الكثير من مستنقعات السلطة التي تظهر ثم تختفي فيُظن بأنها أفعال متكرّرة موسمياً، بينما في الواقع هي أحداث مستدامة مصمّمة خصيصاً لاستمرار آليات الحكم. مستنقع الشتوة الأولى ليس سوى المستنقع الأكثر ظهوراً.

9 ملّم من المتساقطات أمس، أغرقت شوارع بيروت وضواحيها بأمطار مياه «الشتوة الأولى»، وحوّلت معها طرقات العاصمة ومداخلها الحيوية إلى مستنقعات. كمية المتساقطات ليست استثنائية كما يشيع البعض، إلا أنّ المخالفات والتقصير والتهرّب من تحمّل المسؤولية أغرقت الطرقات بإهمال مزمن يُترجم بالتوقيت نفسه، أي في الفترة التي يُتوقع فيها تساقط الأمطار. وزارة الأشغال ترمي المسؤولية على الآخرين: رمي النفايات في الشوارع وعلى ضفاف الأنهر والمجاري، إلى جانب تقاعس البلديات وشركات جمع النفايات، كل ذلك ينتج هذه المشكلة. فبرغم تطوّر الأرصاد الجوية وقدرتها على توقّع الأمطار قبل وصولها بأيام، يتكرّر المشهد وتتحوّل الطرقات إلى مستنقعات موسمية تجتاحها سيول تحمل أوساخ الصيف الماضي.

في معظم المناطق اللبنانية، باستثناء “سوليدير”، لا مجاريَ مخصّصة لمياه الأمطار بل قنوات موحّدة تتسرب عبرها المتساقطات ومياه الصرف الصحي نحو البحر. سوء التخطيط بدأ في مطلع التسعينيات عندما انطلقت ورشة ما سُمي إعادة إعمار. النتيجة تشير بلا شكّ إلى أن البنية التحتية المنفّذة فيها من الهشاشة ما يجعلها تعتمد بشكل كبير على الصيانة وعلى التنسيق بين مناطق منفصلة ووحدات فيها سلطات مختلفة ومتنوّعة. عملياً ليست هناك جهة مركزية تتحمّل هذه المسؤولية، بل هناك لامركزية في القرار تنتج المستنقعات فقط. وهذا الأمر حصل قبل الانهيار المصرفي والنقدي، إنما هذا الأخير سهّل تقاذف المسؤوليات وتبرير الموبقات المرتكبة. يستدّل على ذلك من خلال مؤشرات أبرزها أن آليات تنظيف المجاري موجودة لدى البلديات والوزارات، وكذلك مشغّلوها، فضلاً عن أن موسم الأمطار يسبقه جفاف الصيف لأكثر من أربعة أشهر من الجفاف. لم يجرِ خلالها العمل على تنظيف المجاري.