| جورج علم |
تكثر “الممرات غير الشرعيّة”، ويكثر عدد العابرين. ليست محصورة بوعر الحدود، إنها في الداخل أكثر فظاظة، والعابرون من كبار المسؤولين الذين فضّلوا سلوك الوعر الفئوي، من سلوك الممرات الشرعيّة الدستوريّة الآمنة.
عندما دعا الرئيس نبيه برّي إلى حوار مقرّه مجلس النواب، جاءه الردّ، وما دور المجلس؟ أوليس هو المؤسسة الدستوريّة الشرعيّة للحوار؟ أوليست غالبيّة الأحزاب والقوى السياسيّة ممثلة، وتفاخر بعديد نوابها، والكتل التي حرصت على تكوين شحمها ولحمها؟ ولماذا لا يحضن جلسات يوميّة للعصف الفكري، للنقاش المسؤول، وفق القانون والدستور حول المخارج، ومشاريع الحلول الإنقاذية؟!
وعندما دعا البطريرك بشارة الراعي إلى الحياد الإيجابي، إرتفعت الأصوات المندّدة. البعض إتهمه بالعمالة. البعض الآخر صرخ مستهجناً “ولوووه… كيف بيكون حياد والقضيّة الفلسطينيّة لا تزال حيّة ترزق؟!”.
وعندما قدّم المجتمع الخليجي، والعربي، والأوروبي، والدولي، نصائحه بإنجاز الإصلاحات الضروريّة، ساد هرج ومرج في الداخل، وتهكم حول أيّ إصلاحات؟ ومن يصلح؟ وهل يُطلب ممن غرف أموال الشعب، والدولة، أن يلفّ حبل المشنقة طوعا حول عنقه، من خلال الإصلاح؟!
ويطول الحديث عن المعابر غير الشرعيّة المزدهرة على طول الحدود البريّة، والتي يسلكها يوميّاً العشرات، لا بل المئات من النازحين. لقد تجاوزت الجائحة حدود المزايدات الموبوءة بفيروسات فئويّة قاتلة، لتبلغ الخطر الوجودي، والتغيير الديموغرافي. ويُترك لأهل العلم، والإختصاص أن يدلوا بدلوهم حول المخاطر الناجمة، والأخطار الداهمة، ليتفرّع الحديث حول المعابر غير الشرعيّة في الداخل، والتي يسلكها الرئيس، والوزير، والنائب، ورئيس الحزب، أو التيار، لنثر الملح على الجرح، والإمعان بهدم الجسور، وزيادة منسوب التنابذ والتباعد، وتوسيع مساحة الفراغ.
حجّة الغالبيّة أن ليس في اليد حيلة، هناك غرفة سوداء تخطّط، وتشرف على التنفيذ. محصّنة بمصالح دوليّة، وقد أصدرت قرارها الأول في نهاية عهد الرئيس ميشال عون، ومنعت تشكيل حكومة دستوريّة تحظى بثقة المجلس النيابي، وأفسحت المجال أمام حكومة مستقيلة تقوم بمهمّة تصريف الأعمال ضمن نطاق ضيّق.
لماذا لم تشكّل حكومة يومها؟ ومن المسؤول؟ أوليست الإيحاءات الخارجيّة أقوى نفوذاً من أهل الدار، أصحاب النفوذ والحظوظ، لإطالة أمد الفراغ، وفرض حسابات، ومعالجة ملفات على حساب الشعب العنيد، والسيادة الوطنيّة التي تحوّلت إلى وجهة نظر؟ والسؤال الأكثر إلحاحاً: لو كان اصحاب الدولة، والمعالي، والسعادة يملكون حرية القرار والإعتبار، فلما لا يبادروا إلى سلوك المعابر الدستوريّة القانونيّة الشرعية، بديلاً عن الزواريب؟ وهل هم فعلاً أحرار في تقرير المصير، وتعود الإمرة لهم.. أم أنهم مجرّد نواطير، وحرّاس التفليسة، وشهود الزّور على الكبائر التي ترتكب بإسم الحريّة، والسيادة الوطنيّة، والشعارات الشعبوّية الحاضرة في كل مكان وزمان؟
لقد تحوّل لبنان إلى حقل تجارب، يأتي الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لو دريان، فتهبّ عواصف رعديّة إعلاميّة مشرقطة حول ما يحمل من “أفكار بنّاءة”، و”مبادرات ورديّة”. ويغادر، فيرخي ليل التبجّح ظلاماً دامساً على واقع ينتظر معجزة في زمن غادرته المعجزات.
يأتي الموفد الأميركي آموس هوكشتاين فيخطف بزيارة واحدة تفاهماً لترسيم الحدود رغماً عن رفض الرافضين، وممانعة الممانعين. “الغرفة السوداء” تجيز له ما لا تجيزه لغيره، لأن المخططات المرسومة تقضي بذلك، سواء أكانت مؤاتية ومصالح الوطن الصغير، أو على حسابه.
يضجّ الفضاء الإعلامي المحلّي راهناً بكلام عن قطر، وموفد قطري، ومبادرة قطريّة، ولقاءات سريّة، وأسماء رئاسيّة، وتنبوءات عشوائيّة يختلط فيها الحابل بالنابل، إستناداً إلى تلفيقات، وسيناريوهات، وتسريبات على الطريقة البوليسيّة، والنتيجة لغاية الآن “مكانك راوح”.
لا أحد ينكر ما لقطر من طاقات دبلوماسيّة، وإمكانات ماديّة، ومعنويّة، وهي قادرة على مخاطبة الكبار، وأهل القرار، وربما الولوج إلى “الغرفة السوداء”، والجلوس في منصّة التحكم. لها سوابق محقّقة، وتجارب موفّقة. لكن في كواليس دبلوماسيّة عربيّة متابعة لمسار الأمور، أسئلة يكتنفها غموض حول القدرة وحجم المقدرة على تغيير العبوس إلى بشاشة، وكيف يمكن أن تنجح وساطة قطريّة في لبنان بحكم الجوار السوري المأزوم، والذي يلفظ المزيد من الزبد المالح صوب الشطآن اللبنانيّة؟ وكيف يمكن لمبادرة قطريّة أن تغيّر مواسم القحط على البيدر اللبناني، ورئيس وزرائها، وزير الخارجيّة الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، يؤكد من نيويورك موقف بلاده المعارض للنظام السوري، وينتقد الإنفتاح العربي على دمشق، وعودة سوريا إلى كنف الجامعة العربيّة؟
والمضحك المبكي، أن بعض من في الداخل يتصرّف وكأن لبنان ضرورة قصوى لا يمكن للعالم الحر أن يغمرها بالنسيان، فيما دول شقيقة أغنى طاقة وإمكانات، وأوسع مساحة، وشبكات مصالح، تعاني منذ سنوات، ولا من مبال، لا بل هناك من يستثمر بالمعاناة. هذه ليبيا النفطيّة التي تتمزّق نتيجة صراع داخلي معقّد، ولا من يأبه في وقف النزف رغم عديد المبادرات الأمميّة ـ الدوليّة، وكثرة المبعوثين، والموفدين، ورجاحة القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي ذات الصلة. وهذا السودان أكبر منجم للذهب والمعادن، قد دخل تحت وطأة الحديد والنار في معارك لا تنتهي بين أهل البيت الواحد، والمؤسسة الواحدة. وهذه سوريا التي تحفر في أخاديد جغرافيتها حدود فاصلة بين مناطق، وأقاليم ترسمها غرف سوداء بأقلام مروّسة، وبحبرٍ تسكبه المصالح الدوليّة الكبرى.
عسى في لبنان أن تنجح المبادرات الطيبة في إنقاذ ما تبقى، حتى لا يبقى المستقبل والمصير في عهدة الغرفة السوداء التي لها مصلحة في إيجاد حلّ لملفات ساخنة على حساب الصيغة والنظام والكيان، قبل ان تقرّر أيّ لبنان تريد، وأي دور سيسند له في زمن التطبيع.. أو زمن التجويع لفرض التطبيع!