| جورج علم |
يبقى شدّ العصب مستمراً، طالما أن المباراة ما بين فريقي الممانعة والمعارضة في عزّ حماوتها، لتكريس فائز وخاسر، غالب ومغلوب، طالما أن الفريقين يرفضان التعادل.
العصب الشيعي مشدود. يعرف “الثنائي” ما يريد. إعلامه لا يقصّر. منابره صدّاحة. فعالياته ملتزمة أصول الطاعة، تعرف كيف تسوّق الإيجابيات، وتحجب السلبيات والهفوات. خطابه يفتقر إلى الإجماع الوطني.
العصب المسيحي مشدود، وإن بأوتار مختلفة، يجمع ما بينها قلق حول الحاضر، والمستقبل، والمصير.
يبقى العصب السنّي المكلوم الذي يخوض التجربة. وتجري حاليّاً محاولات جديّة لجسّ النبض، وتشخيص الحالة، ومعاينة مكامن الوهن، وفحص قوّة المناعة، واكتشاف الإمكانات والمؤهلات. العصب السنيّ ضرورة وطنيّة، إنه عصب التوازن الضابط لخلل التوازنات. عندما اختلّ موقعه، اختلت مرتكزات العيش المشترك، وعندما غابت ـ أو غُيّبت ـ الهامات في صفوفه، غُيّب الاعتدال، وتحوّل الوطن إلى عصفوريّة.
قدّم السنّة قافلة من الشهداء من خيرة الرجال، دين ودنيا، ولا حاجة إلى نكء الجراح لتستيقظ فلول الذاكرة، يكفي انفجار 14 شباط 2005 الذي فجّر الوطن، وزلزل مرتكزاته. ومنذ ذلك التاريخ جنازات لا تنتهي، وانهيارات لا تحصى، وفنون صادمة من الجنون، وولاء مشبوه، وانعطاف نحو لا مركزيات، وحارات كل من إيدو إلو…
الآن، زمن الهول من الصدمة، لم يعِ اللبنانيون مخاطر تردداتها. لم يكتشفوا حجم دماراتها. لم يبلغوا مساحات قحطها، ويباسها، وسنابل القمح المفحّمة بحرائق الفساد، والإنسداد. إنه زمن الفجور. وعندما يكون الخلاف محتدماً حول جهنّم أو الجحيم، يكون العهر السياسي قد بلغ أدنى مراتب الانحطاط. وهل من انحطاط أشدّ وقعاً وإيلاماً من خطاب عنوانه “لنا لبناننا، ولكم لبنانكم… لنا كانتوننا، ولكم كانتونكم… لنا خصوصيتنا، وثقافتنا، ونمط عيشنا، ولكم خصوصيتكم، وثقافتكم، ونمط عيشكم”؟! قد يكون سلوك فرضته عصبيتان مأزومتان، الأولى تحمل على منكبيها إرث “لبنان الكبير”، بإيجابياته، وسلبياته، والثانية تحمل إرثاً من مظالم التاريخ، وتريد تصحيحه، ولو كان الثمن التضحية بمرتكزات “لبنان الكبير”.
بين “المأزومتين”، تبدو الحاجة ملّحة إلى الوسطيّة، إلى العصب السنّي المنفتح، المعتدل، المتبصّر، إلى من قال يوما “لبنان أولاً.. ولا ولاء يتقدّم على الولاء له”. إلى “ما حدا أكبر من لبنان…”، إلى مدرسة في السياسة جبلت دماؤها بتراب هذه الأرض، وأعطت الوطن، من دون أن يعطيها سوى اتهامات باطلة من قبل البعض، وحاقدة من قبل البعض الآخر.
العصب السنّي، تتفتح أكمامه. المشهد في دار السفير وليد البخاري لا يحتاج إلى قارئة فنجان. لقاء الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لو دريان بمفتي الجمهوريّة الشيخ عبد اللطيف دريان، وحوله عدد من نواب السنّة، وخلفهم صورة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لقاء غنيّ برمزيته، وترك الباب مشرّعاً على الكثير من التحليلات. والخلاصة المستنتجة أن هناك دوراً سعوديّاً، و”الجمعة” في صالون السفير مستخلصة من فعل جمع يجمع، أي العمل على الجمع بدل الطرح، والضرب، والقسمة. والجمع هنا بمراحله الراهنة، مركّز على جمع شتات الطائفة، وتقريب المسافات بين فعالياتها، واستنهاض هممها، وتفعيل طاقاتها، وإمكاناتها.
تجديد المبايعة للمفتي دريان نبض طافح بحيويّة دبلوماسيّة هادئة، مرنة، وفعّالة. العودة إلى شؤون المجتمع المدني، وروابطه، وجمعياته، وفعالياته، وإلى العائلات البيروتيّة والطرابلسيّة العريقة، ليس من باب اللياقات، بل من باب الواجبات والإلتزامات. هناك دور سعودي يحاول أن يشدّ العصب السنّي المعتدل، المنفتح، المؤمن بالكيان، والنظام، والصيغة، والميثاق، والطائف، ولبنان أولاً… ويبقى معرفة مدى قدرة هذا الدور على ملء الفراغ؟
هناك نظريتان: الأولى عبّر عنها السفير السعودي السابق الدكتور علي عواض العسيري خلال حوار خاص، حيث أكد لي بأن “السعوديّة لا تريد من لبنان شيئاً لنفسها، بل تريد كل الخير والاستقرار، والازدهار لهذا البلد الجميل. نحن هنا لتمتين أواصر العلاقات، ولتقديم كل دعم ممكن للدولة، ومؤسساتها، وللشعب اللبناني بدون تمييّز”.
الثانيّة مستخلصة من “الكسوف” الذي أصاب “البدر” الخليجي في ليالي لبنان العامرة هذا الصيف. كان الحضور خجولاً، ولأسباب كثيرة، بعضها معروف، والكثير منها ينطوي على مرارة. يقول صديق إلتقيته، وقد حطّ بالديار لثلاثة أيام فقط، بأن “الدور السعودي التقليدي تجاه لبنان يكاد أن يكون من المسلمات، إلاّ أن النظرة تغيّرت، جيل اليوم غير جيل الأمس. جيل اليوم لا يعرف لبنان، خلافاً لجيل الأمس حيث كان لبنان واحة الخليج، ومصيف الآباء، والأجداد. اليوم، هناك ‘رؤية 2030’ التي رفعت السعوديّة عالياً في معارج الحداثة، والتنميّة، والريادة، والتقدم والازدهار. وبالتالي أي دور، أو أي مبادرة لا يمكن ان تكون إلاّ وفق رؤية الأمير محمد بن سلمان، وطموحاته، والمكانة التي احتلها على المستوى الخليجي، والعربي، والإقليمي، والدولي. وهنا يجب التمييز ما بين الدور، والمبادرة. الدور قد يكون متاحاً لشدّ عصب الاعتدال. أما المبادرة، في حال كتب لها أن تكون، فلن تكون إلاّ بحجم رؤى وطموحات صاحبها، إنه حامل مفاتيح الحل لأزمات كثيرة في العالم. إنه المؤثر في منظمة ‘أوبيك +’. إنه الوسيط في الأزمة الأوكرانيّة، إنه الحاضر في ‘مجموعة العشرين’، ومجموعة ‘الدول السبع’، و’البريكس’، و’الحزام والطريق’ مع الصين، والخط الاقتصادي الجديد مع الهند. إنه حامل مفاتيح كثيرة في العالم، فهل مفتاح أزمة لبنان من ضمنها؟”.
حتى الآن هناك دور سعودي لاستنهاض عصب الاعتدال… فهل يتحوّل مع الآتي من الأيام إلى مبادرة في ظل العجز الذي يعاني منه “الخماسي” على ملء الفراغ؟