| جورج علم |
لا تبني طيور أيلول أعشاشاً، ولا تحتضن فراخاً، إنها في سفر طويل هرباً من رياح تشرين، وأعاصير الشتاء. زارنا الأميركي أموس هوكشتاين، تناول منقوشة على الروشة، وأخذ صورة تذكارية أمام هياكل بعلبك، وحدّثنا عن مزاجه التفاؤلي في مطار رفيق الحريري، قبل أن يغادر. زارنا الإيراني حسين أمير عبد اللهيان ليجتمع طويلاً بمسؤولين عن حركة “حماس” و”الجهاد الإسلامي”. لم يجد من ديار الله الواسعة سوى بيروت ليعبّر عن تضامنه، يريد تحرير فلسطين إنطلاقا من الضاحية. ويبقى السؤال، متى يزورنا الفرنسي جان إيف لو دريان؟ الله أعلم. يقال بأن مهمته معقّدة، وسلّته لا تغرف مياه.
زائر وحيد حرّك نسيمات التفاؤل، وصول السفير القطري الجديد الشيخ سعود بن عبد الرحمن بن فيصل ثاني آل ثاني إلى المطار. وتزامن وصوله مع انتشار خبر يفيد بأن دولة قطر قرّرت توفير المحروقات للجيش اللبناني والقوى الأمنيّة. قبل ذلك، شاع خبر يفيد بأن دولة قطر تبرّعت بـ60 مليون دولار أميركي لدعم رواتب العسكر، وتغطية النفقات الإستشفائيّة. وقبله، كان خبر يفيد بأن الدوحة قد شاركت في أول اجتماع تعقده اللجنة الخماسيّة العربيّة ـ الدوليّة حول لبنان، في باريس، في شباط الماضي، وكان لها رأي واضح في المواصفات الرئاسيّة المطلوبة، وقيل يومها إنها كانت متطابقة إلى حدّ بعيد مع تلك المتوافرة في شخصيّة قائد الجيش العماد جوزيف عون. وكان لافتاً استضافتها الاجتماع الثاني للجنة الخماسيّة، بهدف دعم مهمّة الموفد الرئاسي الفرنسي، وتمكينه من إيجاد حلّ للفراغ الرئاسي، وقد صدر بيان في نهاية الإجتماع عرف بـ”بيان الدوحة”، يرسم خريطة طريق لإنجاز هذا الإستحقاق.
يبقى أن اعتماد سفير على وجه السرعة، في ظرف مصيري دقيق كالذي يمرّ به لبنان، يخفي رغبة قطريّة عليا مصمّمة على متابعة المستجدات. كان بإمكان الدوحة أن تتريّث، فلا رئيس للجمهورية لتقديم أوراق الإعتماد. ولا حكومة شرعيّة تستمد ثقتها من المجلس النيابي. ولا مؤسسات رسميّة ناشطة لخدمة الناس ومعالجة قضاياهم اليوميّة، ورغم ذلك كان هناك إصرار على اعتماد سفير فوق العادة، مطلق الصلاحيات. ويقال إن حسن التدبير من حسن التقدير. أتقنت فن حياكة السجاد العجميّ، ولم تبخل على إيران بعلاقات استثنائيّة مميزة عن سائر دول مجلس التعاون الخليجي. لم تعترض على المسار الصيني ـ السعودي ـ الإيراني، لكنّها لم تسر بركبه، بل حافظت على استقلاليّة مرنة كانت موضع تقدير من جانب الإدارة الأميركيّة. لم تتجاوز دور مصر والمملكة العربيّة السعودية داخل اللجنة الخماسيّة، بل قالت رأيها، بما يتفق وقناعاتها. لم تُدِر ظهرها لمهمة فرنسا في لبنان، وللدور الذي يلعبه لودريان، بل جمعت الخماسيّة، وصدر بيان يرسم خريطة طريق إنقاذيّة، تستند إلى محطات أربع: الحوار ـ أن يفتح مجلس النواب أبوابه لانتخاب رئيس ـ أن يتحمل النواب مسؤولياتهم الوطنيّة الدستوريّة، وينتخبوا، بدلاً من أن يعطّلوا ـ وأن عقوبات يمكن أن تفرض على المعطّلين المعرقلين.
بادر رئيس المجلس النيابي نبيه برّي بالدعوة إلى الحوار. حدّد المكان تحت قبّة المجلس، والمهلة بسبعة أيام، تعقبها جلسات مفتوحة تنتهي بانتخاب رئيس. لم يقدم على هذه الخطوة إلاّ بعد مروحة واسعة من الإتصالات شملت بعض من هم في الداخل، والخارج، وتزامنت دعوته مع طيور أيلول. كان الأميركي هوكشتاين هنا، والإيراني وزير الخارجيّة عبد اللهيان، وبعد مرور أيام معدودة على وصول السفير القطري، وقبل أيام من وصول الموفد الفرنسي، والإعلان الصادق عن الكلام السعودي الإيجابي حول لبنان.
دعوة برّي قد تكون مجرّد “بروفة”، أو خطوة تمهيديّة، وقد لا تخرج عن هذا الإطار نظراً للتشكيك المسبق بجديتها، وصدقيتها. سبق له أن دعا، ورُفضت دعوته. يقول بعض المعترضين، كان عليه أن يتنازل، أن يقدّم شيئاً يدعم مسار الحوار، أن يتخلّى “الثنائي الشيعي” عن مرشح التحدّي، أن يقدم عرضاً مغرياً… لكنه لم يفعل، بل أعاد التأكيد على مواقفه، وثوابته، وتحالفاته، ودعا إلى الحوار حول طاولة يتوسطها السلاح المقدّس، والثلاثيّة الذهبيّة.
رحّب الفرنسيّون بالدعوة. إنها بنظرهم خطوة استباقيّة إيجابيّة يمكن البناء عليها. عندما يحضر الوزير لودريان إلى بيروت، يمكن أن يساعد. أن يحثّ الأطراف المعترضة على القبول، والجلوس إلى الطاولة. ويمكنه، إذا تعذّر الأمر، أن ينقل الطاولة من المجلس النيابي إلى قصر الصنوبر، وتكون برعاية الخماسيّة العربيّة ـ الدوليّة. لكن بعض الدبلوماسيّين العرب، يقلّل من الفرص والاحتمالات، حجته في ذلك أن العلاقات الفرنسيّة ـ الإيرانيّة في أوج تأزمها، وتفاقمها، ويصبح من الصعب جدّاً الرهان على دعم إيراني شفاف ومطلق لإنجاح المسعى الفرنسي في لبنان.
لا يمكن استباق الأمور. لكن إذا ما فشل لودريان في تحقيق ما يريد، ووجد عراقيل جديّة تعترض مهمته، يأتي الدور القطري ليدخل الاستحقاق الرئاسي من بابه العريض، متسلحاً بثقة أميركيّة، ومباركة إيرانيّة، وتنسيق عربي، خصوصاً مع السعوديّة ومصر.
هناك، في جامعة الدول العربيّة في القاهرة، ثمّة من يقول إن قطر تراهن على خطوات ثلاث:
- حوار لبناني، ضمن حضن عربي دافىء، قد يكون في مجلس النواب، أو في الدوحة، أو في مقر الجامعة العربيّة، أو في مكان آخر يتفق حوله.
- حوار برعاية أمميّة ـ دوليّة على غرار الطائف (30 أيلول 1989)، أو الدوحة (21 أيار 2008).
- حوار ينتهي بتسوية كبرى تعالج عجزّين متفاقمين: عجز داخلي يحول دون قيام دولة المؤسسات. وعجز خارجي يضع لبنان في شرنقة، والمراد تحريره، وإعادة دوره إلى الخريطة العالميّة خصوصاً على مستوى الدول الشقيقة والصديقة…