| جورج علم |
تنشط الدبلوماسيّة الفرنسيّة على خطين:
– إجتماع “للخماسيّة” تمهّد لعودة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت.
– التفاهم مع واشنطن حول خريطة طريق تمهّد لانتخاب رئيس، وإحياء المؤسسات.
وتحاول باريس ترتيب لقاء بين الرئيسين إيمانويل ماكرون والأميركي جو بايدن، وربما حصل ذلك في نيويورك نهاية أيلول، على هامش الدورة العاديّة للجمعيّة العامة للأمم المتحدة. ما يهمّ العاصمة الفرنسيّة هو فتح كوّة في الجدار المسدود. لا تريد أن تضيف فشلاً جديداً إلى قائمة مبادراتها تجاه لبنان منذ أيلول 2020، عندما طرح الرئيس ماكرون على أمراء الطوائف، مبادرته الإنقاذيّة، في قصر الصنوبر، وصولاً إلى رسالة لودريان، وما تضمّنت من أسئلة برسم النواب.
ما يصعّب المهمّة، أن لبنان ليس أولويّة على أي أجندة خارجيّة، وكلّ دولة من مجموعة الخمس لها ملفات عالقة في ما بينها تتقدّم على الملف اللبناني، وأن مشوار بيروت بات مكلفاً، لا القطار الأميركي غبّ الطلب، لحجز مقعد، أو موعد. ولا القطار الإيراني يقدّم عروضاً مقبولة، أو قابلة للتطبيق، وفي كلّ مرّة تُسأل فيها إيران عن موقف من لبنان، تحيل السائل إلى “حزب الله”.
الحوار الأميركي ـ الإيراني يّصنّف كأسلوب جديد مبتكر في الدبلوماسيّة الدوليّة. أسلوب متعدد المحطات: مسقط، الدوحة، فيينا، جنيف، وعواصم أخرى… ومتعدد الأطراف، أو الوسطاء… أسلوب، حدّه الأقصى تلافي الصدام، وحدّه الأدنى تطبيع العلاقات “عالقطعة”، كما هو حاصل الآن في ملف محاولة الإفراج عن الرهائن الأميركيّين، مقابل الإفراج عن أموال إيرانيّة محتجزة.
الثلاثي العربي، ضمن الخماسيّة، (مصر، والسعودية، قطر)، يقرّ ويعترف بأن دبلوماسيّة التطبيع هذه ما بين واشنطن وطهران شملت لبنان في بعض الملفات. دليلهم ملف ترسيم الحدود البحريّة مع العدو الإسرائيلي، وملف استخراج النفط من بحر الناقورة. لقد تناغمت لغة المصالح، فكان ما كان. لكن ما يباعد بينهما عدم التوصل لغاية الآن إلى تصوّر نهائي مشترك حول أيّ لبنان؟ واضح أن إيران تريده وفق المواصفات التي يحددها “حزب الله”. فيما تريده واشنطن وفق المواصفات التي تتطابق مع “الصندوق الإبراهيمي”.
ويحاول الفرنسي إعتماد الخيار الثالث. لا مصلحة له في أن يرى لبنان يتحوّل إلى حديقة خلفيّة للمصالح الإيرانيّة على شاطىء المتوسط. أو يتحوّل إلى حديقة جانبيّة للمطامع والمطامح الإسرائيليّة.
لن تتخلى فرنسا عن إرث تاريخي لها، عن مؤسسات تربويّة، وثقافيّة، وماليّة، وإقتصاديّة. عن إستثمارات بدأت في قطاعات مختلفة أبرزها النفط، والمرفأ. لن تتخلّى عن همزة الوصل هذه ما بين الشرق والغرب. حاولت إعتماد السلّة الواحدة، إنتخاب رئيس يريده “حزب الله”، واختيار رئيس للحكومة تريده المعارضة، وفريق وزاري تريده الإصلاحات التي ينادي بها صندوق النقد الدولي. والآن تحاول إعتماد خيار وسطي بين ما تريده إيران، وما تريده الولايات المتحدة ـ “إسرائيل”. تريد باريس لبنان الطائف، والميثاق، والصيغة، والعيش المشترك، والمؤسسات الرسميّة. لبنان الدم الجديد الخالي من فيروس الفساد. لبنان الإصلاحات التي تتوافق وروح العصر، والذي ينادي بها المجتمع الدولي، وصندوق النقد. تريد رئيس الخيار الثالث، بعدما سقطت معادلة “السلّة الواحدة”. رئيس تريده مؤسسات وازنة في الإدارة الأميركيّة، ولا ترفضه مؤسسات أخرى. رئيس يحظى بدعم قطر، ومصر، والسعوديّة، وإن بنسب متفاوتة. رئيس قد لا يحظى بأفضليّة مطلقة لدى سائر المكونات المحليّة، ولكنه لا يحظى بمعارضة مقنعة، بقدر ما هي مقنّعة بغرضيات مصلحيّة ضيقة.
المقلق أن المركب يغرق، بين من هم على متنه يعبثون بما تبقى من محتويات، ويتقاذفون الإتهامات، غير مبالين بسوء المصير. والمقلق، أن الغالبيّة تنعي مبادرة الموفد الرئاسي الفرنسي قبل أن يحدد موعد عودته، وحتى قبل أن يفصح عمّا في جعبته، ويتم التعاطي مع رسالته وفق الإملاءات الخارجيّة المستوردة، لا وفق مقتضيات المصلحة الوطنيّة العليا. تحولت رسالته مادة للسخريّة، من دون أن يكون هناك من بديل.
وتحوّلت مادة للإنتقاد الشعبوي المغلف بشعارات السيادة، وكرامة المؤسسات ورجالاتها، فيما النهب، والفساد، والإنحطاط على مختلف المستويات، يملأ الأرجاء. وتحوّل بعض نواطير الهواء إلى موقع المتفرّج، المنتقد، الشامت، وكأن الرجل يأتي كمنافس، أو معطّل لأدوار الأخرين، والحلول مكانهم. بالطبع قد لا يحمل الترياق، وقد لا تسعفه الولايات المتحدة في مسعاه، ولا الخماسيّة العربيّة ـ الدوليّة في ظلّ المد الإيراني، والتمدد الروسي، والفوقيّة الأميركيّة..
ولكن ما البديل إذا ما فشل، أو قرّر الانسحاب؟ وهل من خيار متاح سوى الفوضى، والمزيد من الإنهيار، والفقر، والبطالة، والجوع والهجرة، والاقتراب أكثر فأكثر نحو شارع متفجّر، ومشهد قد يقارب بدوافعه المعيشيّة ما يجري في السويداء؟
لا يحتمل لبنان “17 تشرين” جديدة، وإذا ما حصلت تحت تاثير دوافع معيشيّة، إجتماعيّة، إقتصاديّة، فهذا يعني القضاء على البقيّة الباقية من وطن، وكيان، ووحدة أرض، وشعب. ربما هذا ما تريده بعض الدول المؤثرة والضاغطة لبناء لبنان آخر لا نعرفه، ولا نريد أن نعرف شيئاً عن دوره، ووظيفته في المنطقة. ما نعرفه بأن هناك دولة وحيدة مهتمة هي فرنسا. قد تكون هنا وفق مقتضيات مصالحها، وهذا أمر لا لبس فيه، والدول ليست بجمعيات خيريّة، بل مؤسسات تدير مصالح.
وفرنسا الدولة الوحيدة الهادفة إلى إنتشال لبنان الذي نعرفه من الإرتطام الكبير، فأقل الإيمان التلاقي، والتآزر، وتقديم العون والمساعدة لإنجاح المهمة، واعتماد الخيار الثالث، لا حبّاً بالشخص، بل بحبل النجاة الوحيد المتبقي قبل فوات الآوان.