/ لينا فخر الدين/
7 سنوات مضت حينما كتبتَ اسمي على العدد الأخير من «السفير»، وأنا هنا أخطّ اسمكَ. أودّعك وأكتب عنك. كنتُ أُدرك دائماً أن ساعة الرحيل لا بدّ أن تحين يوماً. تخيّلتها عشرات المرّات، ولا جرأة لي بالسؤال عمّا إذا كنت قد متَّ فعلاً. أنتَ لا تزال تجلس هناك، في الطابق السادس، تستلّ قلمك وتكتب، وفي يدك سيجارة بيضاء تُشبه كثيراً جسدك النحيل الذي حمَلنا لأعوامٍ. رائحة دخانك تعبق في المكتب الجلدي، وأنت تضحك. تأخذ نفَساً عميقاً، وتتذكّر حادثة عمرها عشرات السنوات، تعود بكَ الذاكرة إلى مكانٍ ما، وأنت تسردها على مهل، وكأن الكلمات تسكنك غير راضية بتركك. أتأمّل تلك اليدَين، التي تعرف وحدها كيف تقصّ علينا الرواية بعناية.
هنا، في مبنى «السفير»، في مكتبك في الطابق السادس، حيث تقابلنا للمرّة الأولى. كانت تلك اليد التي امتدّت وربّتت كتفي. هذه اليد كانت تكفيني حتّى تفتح لي أبواب «السفير» الواسعة. هي اليد السمراء نفسها التي شاركتني أفراحي، وهي اليدُ التي كان صاحبها يطمئن عليّ ليلاً، وهو يهبط درجات «السفير» مودّعاً. وأنت الذي كنت بالنسبة إلينا، أكثر بكثير من «الناشر»، كنتَ أنت الحب الكثير.
توقفت عن الذهاب نحو مكتبك، بعدما أكلني الحنين إلى «السفير». كنتُ أتقصّد التوجّه إلى نزلة «السارولا»، أترصّد سيارتك مركونة على باب الجريدة. أطمئنّ أنّك ما زلت بيننا. أتقصّد السؤال عنك من بُعد. أنا التي كنت أرتعد خوفاً كلما سمعت أنك تُقاوم المرض بعناد، تماماً كما قاومت كلّ شيء. هذا الألم لا يليق بقلبك؛ قلبك الذي اتّسع لحبّنا مع هنادي وربيعة وأحمد وعلي. قلبكَ الذي كان يسأل عن أحوالنا، حتّى بعدما تباعدنا. قلبكَ الذي كان يحمّلنا الفرح، ويرقص معنا على أنغام القُدود الحلبيّة التي تُحبّها.
لطالما عانيت كثيراً، عند كل وداع حبيب، من «فقدان» الذاكرة. ولكن معكَ أنت، الأمر يبدو مختلفاً. ما زلت أذكر كيف تحفر المهنة في أرواحنا كلّ يوم، كيف تحيك قصّة ابن العسكري الآتي من شمسطار وحلمه أن يكون صحافياً، وكان له ما أراد. ما زلتُ أذكر تلك الابتسامة عندما أتيتُ إليكَ، أنا الخرّيجة حديثاً من كلية الإعلام، حينها علّمتني قواعد المهنة التي قضيتَ عمرك تحميها ودفعتَ ثمنها من جسدكَ. ما زلتُ أذكر دخولك إلى الاجتماع الصباحي كل يوم، تعطي الملاحظات بضحكتك المعهودة. كلما شعرتُ بالتعب توجّهت إلى مكتبك. حيث يقطن الرجل «الذي علّم بالقلم».
تؤلمني الذكريات، كما آلمني انسلاخي منذ 7 سنوات عن «السفير»، وكالألم الذي أشعر به برحيلك، وأنا أتخيّل أن الغبار سيملأ الطابق السادس ومكتبك الخشبيّ. لكننا، يا أستاذنا، سنبقى هنا. نكتب لك، ونحمل «على الطريق» على أكتافنا، كما حملتنا جميعاً إلى قمّة «السفير».