الحصار مستمر.. و”واصا باشا” الأميركي يستثمر بالفوضى!

| جورج علم |

هذا الـ”واصا باشا” المتحكّم بمصيرنا، هو أميركيّ الهويّة والهوى. إنها السيدة باربرا ليف مساعدة وزير الخارجيّة الأميركي لشؤون الشرق الأدنى. بشّرتنا في تشرين الثاني من العام 2022 “بأن الوضع في لبنان سيزداد سوءاً مع فراغ غير مسبوق في السلطة”. وبشّرتنا في آذار الماضي عندما زارت بيروت بأن “الحصار الأميركي مستمر. وأن اللبنانيّين سيضطرون إلى تحمل المزيد من الألم. وأن الفشل السياسي في انتخاب رئيس للجمهوريّة يعني دخول لبنان في فراغ طويل”.

إعتبرت المسؤولة الأميركية أن “الحل هو بضغط الشارع”. وقالت: “يجب أن تسوء الأوضاع أكثر حتى يتحرّك الشارع. متحدّثة عمّا سيرافق هذا، المزيد من السوء من تفكك الأجهزة الأمنيّة، وحدوث فوضى، وهجرات مكثّفة”.

رسمت خريطة طريق نحو جهنّم، والمؤسف أنها تنفّذ بنجاح منقطع النظيره، وعند كلّ صباح، ومطلع كلّ شمس، هناك انزلاق نحو الأدهى، من دون ضوابط. إنتهى عهد الرئيس ميشال عون، فعبّر كثيرون عن فرحتهم بانتهاء “عهد جهنم”، لكن العهد انتهى ولم تنته جهنّم. تدمير المؤسسات مستمر، والفساد أيضاً، والانهيار على كافة المستويات. لاح شبح الفراغ عندما عجزت الإرادة الوطنيّة عن تشكيل حكومة دستوريّة ميثاقيّة تتولّى صلاحيات رئيس الجمهوريّة. غادر ميشال عون قصر بعبدا في 31 تشرين الأول، وفي 30 منه، وجّه رسالة الى مجلس النواب، أشار فيها الى “أن رئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي رفض تأليف حكومة. ولا أوافق أن تمارس هكذا حكومة صلاحيات رئيس الجمهوريّة”، مؤكداً أن “الفوضى الدستوريّة تهدد الكيان والميثاق، والحكومة فقدت الشرعيّة الدستوريّة والميثاقيّة”.

تقاذف الرئيسان كرّة الاتهامات، لكن لا الأول، ولا الثاني، كان يملك القدرة على اتخاذ القرار. ويعرف ميقاتي الأسباب، ولماذا لم يشكّل، وماهي الضغوط والتدخلات التي حالت دون ذلك، وأبقت على حكومة مستقيلة تقوم بمهام تصريف الأعمال. جرت محاولات عدّة لانتخاب رئيس، لكن من دون جدوى لأن الحصار الأميركي الذي بشّرتنا به السيدة ليف لا يزال مستمراً، حتى إشعار آخر. تقدمت إيران بهبة نفطيّة، ورفضها المسؤولون آنذاك تحت وطأة الضغوط الأميركيّة، وبحجة أن هذا النفط مدرج على قائمة العقوبات. أما قصّة العاز من مصر، والكهرباء من الأردن ، فهي من إعداد وإخراج السفيرة دوروثي شيا، وكانت قصّة مبتذلة، وخدشت ما تبقى من كرامة. “قانون قيصر”، أهم من معاناة الشعب اللبناني، واحترامه “واجب مقدّس”، وما على الشعب اللبناني إلاّ ان يستجيب رغماً عن أنفه. ولأن “قيصر” موجود، فلا غاز مصري، ولا تيار أردني، بل امتثال لمزاج “المتصرّف”.

عندما استضافت باريس لقاءً خماسيّاً حول لبنان، إنفرجت أسارير كثيرة، على خلفيّة أن الولايات المتحدة شريك مشارك إلى جانب فرنسا ومصر والسعوديّة وقطر، لإيجاد حلّ يبدأ بانتخاب رئيس للجمهوريّة. لكن غيم الخماسيّة كان خلّباً، تكرّرت الاجتماعات، وتكثّفت الاتصالات، وصدرت البيانات، لكن من دون فائدة، الحصار الأميركيّ مستمر، و”الفيتو” جاهز لتعطيل أيّ قرار، ونسف أي جهد يحمل في طيّاته تباشير النجاح.

اختير الفرنسي جان إيف لودريان، كرجل مهمّة، لكنه وصل من دون همّة، تعطّلت عنده المبادرة، صادرتها الإرادة الأميركيّة. واشنطن تساير، وتناور، لكن عند ساعة الحقيقة هي من يقرّر، وجلّ ما تقوم به الخماسيّة هو الحرص على الوهم لدى اللبنانيّين، وإبقاء بصيصه وقّاداً على خلفيّة أن هناك خارجاً يهتم، وهناك خماسيّة عربيّة ـ دوليّة تمسك بالملف اللبناني، وتجتهد وتجهد نفسها لابتكار حلول، ومخارج.

لا يعوّل “واصا باشا” الأميركي على الخماسيّة، والأصح، لا يقيم لها وزناً، يستخدمها كأداة لتمرير الوقت الضائع، والدليل أنه عند ترسيم الحدود البحريّة لم يتكل على أي خارج، لا على خماسيّة، ولا على سداسيّة، أو سباعيّة. جاء وحده، وجلس إلى الطاولة عن يمينه اللبناني، وعن يساره العدو الإسرائيلي، وقبالته الوفد الأممي، وتمّ الإتفاق، وجرى الترسيم برضى ومباركة فرنسيّة، ومن دون الحاجة إلى المبعوث الرئاسي لودريان، وجولاته المكوكيّة.

مشهد آخر أضفاه “واصا باشا” الأميركي على “وليمة الترسيم”، حيث رتّب، بالتنسيق والتعاون مع المصريّين والقبارصة، اجتماعا تشاوريّاً عقد على هامش قمّة مؤتمر المناخ الذي استضافته مصر في شرم الشيخ، في تشرين الثاني الماضي، وضمّ يومها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، ورئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتيّة، ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، والرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس، بالإضافة إلى مسؤولين عن العراق والأردن وسلطنة عمان. وشاركت وزيرة حماية البيئة الإسرائيليّة تمار زاندبرغ.

تزامن هذا الإجتماع بعد ترسيم الحدود. المكتب الإعلامي للرئيس ميقاتي نفى يومها أن يكون قد تمّ أي اتصال مع وفد العدو الإسرائلي. الـ”واشنطن بوست” أشارت إلى أنه “الاجتماع الأول الذي يعقد بين إسرائيل، ودول لا تعترف بها، أو لا تقيم معها علاقات دبلوماسيّة”. “هآرتس” اكتفت بنشر صورة عريضة على صدر صفحتها الأولى تظهر الرئيس ميقاتي يجلس مقابل ممثّل العدو الإسرائيلي، مكتفية بالقول: “الصورة أبلغ من أي تعليق”!

… وبعد، أي لبنان يريد “واصا باشا” الأميركي؟ حتى الآن يهدّد، ويؤكد أن الحصار مستمر، والفراغ سيطول، وأن اللبنانيّين سيضطرون إلى تحمل المزيد من الألم، حتى يتحرّك الشارع. الحل ـ بنظره ـ يبدأ بضغط الشارع، بتفكك الأجهزة الأمنيّة، بتفاقم الفوضى، والهجرات المكثّفة… لكن أي حلّ سيأتي على ما يتبقى من أنقاض وطن؟ وأي لبنان يريد؟ ولأي دور، ووظيفة؟!