| رندلى جبور |
…ودفع شاب مسلم وشاب مسيحي مرّة جديدة ثمن وأد الفتنة.
“تَعادُلٌ دمويّ” سلبيّ نجّانا من الأعظم. للأسف نتحدث بهذه اللغة بعدما زكّاها البعض، وما استخدامُها من قِبَلنا إلا لتطهيرنا من خطايانا التقسيمية.
وبعدما مرّ “قطوع كوع الكحالة”، أو يكاد، وبعد فورة غرائز حامية، لا بدّ للعقل البارد أن يستيقظ ليقول كلمته ويطرح أسئلته.
والكلمة الأهم، التي يمكن أن تكون الخلاصة، هي أن كوع الكحالة أظهر خطابين متناقضين:
خطاب الفتنة والغريزة، وخطاب الوحدة والعقل.
خطاب الفتنة غذّاه إعلاميون وسياسيون وأحزاب، ركضوا إلى حدث غير موجود، فخلقوه وحوّلوه إلى حدث مميت. فعلياً، لم يكن هناك حدث. في العادة، لا تهرع التلفزيونات لتغطية حادث سير. فهذه أخبار عادية بالنسبة إليها، ولا داعي لصرف الأموال على خبر كهذا.
كان يمكن لـ”موقعة الكحالة” أن لا تقع، لو تُركت الامور على طبيعتها، والسيناريو كان سيكون التالي: وقعت الشاحنة، طُلب من الأهالي الابتعاد فابتعدوا، وإذا ما كانت لديهم خشية، فكان يمكنهم بأقصى الحالات إبلاغ الأجهزة العسكرية والأمنية، وتمّت المعالجة ورُفعت الشاحنة ومضى كلّ في سبيله.
ولكن ما حصل هو أن “محطة تلفزيونية” أعلنت أن في الشاحنة سلاحاً، وغير معروف كيف وصل إليهم الخبر، وأن السلاح عائد لـ”حزب الله”. ويا لها من مفاجأة أن تمر شاحنة سلاح لحزب لا يستحي من سلاحه الذي يردع إسرائيل، وتستخدمه الدولة كنقطة قوة في بعض مفاوضاتها، والترسيم شاهد، ولكنه حتماً لا يرغب في استعراض سلاحه في الداخل، ولا هو وضع لافتة تقول: “أنا حزب الله وهذه شاحنة سلاح”.
على كل حال، ركضت تلفزيونات السمّ بكاميراتها ومقابلاتها واستدراج المواقف العالية السقف، التي كانت كفيلة، خلال ساعتين من الزمن، أن تشحن نفوس يشحنوها باستمرار، ويظهر السلاح “الشرعي طبعاً” ليدافع عن “الشرعية”، وعن كرامة بلدة لم يعتدِ عليها أحد، وعن أبناء منطقة لم يقل لهم أحد “يا محلا الكحل بعيونكم”، ولا هي تعرّضت لهجوم منظّم من “أعداء” مفترضين!
هي طريق دولية تمرّ عليها آلاف الشاحنات كل يوم، والله وأعلم ماذا تحمل ولأي جهة، ولا يصرّ أحد على تفتيشها وهذه ليست مهمة الأهالي أصلاً، ولكن البعض في الخارج والداخل أرادها طريقاً دولية لإشعال الفتنة في لبنان، الهادي على “صوص ونقطة”.
وبعد الشحن والشحذ، تبارى السياسيون في مَن يزايد أكثر مستدعياً الفتنة، ومحاولاً كسب شيء من شعبية أو جماهيرية وشدّ عصب طائفي، وبدأ الحديث “الوجداني” عن “الحرب” ورمزيات المنطقة والرموز المقاتلة، لنصبح أمام متاريس على الهواء مباشرة، ومتاريس أرضية أوقعت فعلاً الدم.
ولعل استخدام “حزب الله” في بيانه الأول كلمة “ميليشيات” ساهم أيضاً في تغذية الاحتقان، وهو ما يتحاشاه بالعادة، ثم غطس بعض مناصري الحزب بجملة الاتهامات بالعمالة والصهينة لكل من مرّ في دربهم. وهذا يُسجّل في خانة الخطاب السلبي إياه أيضاً. فليس كل من ينتقد عميل، وليس كل صاحب هاجس هو صهيوني!
كلام وكلام مضاد، واتهامات واتهامات مضادة، وهذا “غير لبناني” وهذا “ميليشيا” وهذا “عميل”.
وسلاح وسلاح مضاد، مع أن كل الانتفاضة هي على شاحنة سلاح، ولم تُقابَل إلا بما هي متهمة به، وأحياناً بالسلاح الفردي يسقط ضحايا في الداخل أكثر بكثير مما يسقط بسلاح منظم ومبرر وجوده في بياناتنا الوزارية، وإلا فليذهب المزايدون إلى نقاش الاستراتيجية الدفاعية. وكم من قتيل في جرائمنا الفردية، وكم من تدريبات سرية وبالأسلحة الثقيلة تحصل لأحزاب تدّعي “البراءة” و”القداسة”.
صرنا نتحدث عن “مسيحي يدافع عن منطقته”، وعن “مسلم يدافع عن أحد مقومات وجوده”. وبتنا نسمع عن مذكرات الحرب و”بطولات” المقاوَمات الطائفية من هذه الجهة وتلك، واستُحضر التاريخ، وأعيد اغتيال الجغرافيا برصاص من عقول طائشة. دخل الجميع في الموجة، بمن فيهم العاقلون. كلهم خافوا من أن يعطوا رأيهم الحقيقي، أو يستأنسوا بالمنطق. انجرّوا إلى الخطاب المطلوب “غبّ الطائفة”.
“انرعب” كل مسيحي من أن يقول أن أهالي الكحالة المسيحية أخطأوا بمواجهة شاحنة الحزب بالسلاح والانفعال من دون أن تستخدم سلاحها ضدهم، ولم يجرؤ شيعي على توجيه أي سؤال أو ملاحظة للحزب وإلا فسيكون من عداد العملاء والمتصهينين.
صار الجميع خبيراً في التفرقة على منصات التواصل التي صارت هي التي تقرر الخطابات الرسمية، وليس العكس. وصارت القيادات والزعماء ينجرّون إلى جماهيرهم، ولا يجرؤون على أخذهم إلى حيث هم يريدون.
لم يبدأ هذا الضجيج الفتنوي بالخفوت، إلا بتغريدة الرئيس العماد ميشال عون ذات الحكمة العالية جداً، والتي دعا فيها إلى “التهدئة بدل التحريض، وإلى مدّ جسور الثقة بدل بثّ سموم الكراهية، وإلى انتظار نتائج التحقيق”.
قال: “الهيكل إذا سقط فلن يسلم أحد، خصوصاً في الظروف التي تحيط بنا، وما من منقذ في الأزمات سوى الوحدة الوطنية فتمسّكوا بها”.
هذا هو الكلام الضمانة، وبعده فليصمت كل خطاب. هذا هو ميشال عون الذي وقّع “تفاهم مار مخايل” الذي صان الوحدة الوطنية” وحافظ على السلم الأهلي” بعدما أسقط المتاريس وأعلا من شأن الهدوء والحوار، وهو نفسه الذي وقف في حرب تموز الوقفة الجريئة التي ضمنت لنا النصر ضمن وحدتنا ونحن على أبواب ذكرى هذا النصر. هذا هو ميشال عون ذات اللبنان الأصغر من أن يقسّم، وأثبت ذلك بمحطاتها وأثبت الوطن ذلك بمفاصله كذلك.
ممنوع تضييع انتصاراتنا في فلتات غرائزنا، وفي تشتت وعينا، وفي تحقيق ما يريده الآخرون على أرضنا.
على اللبناني أن لا يحمل سلاحه ويخرج مسرعاً لمقاتلة إبن وطنه الذي لم يعتدِ عليه، لأنه سيكون الوقود في معركة ليست له.
وعلى السياسيين، أن لا يغذوا الخطابات الغرائزية والأفكار التقسيمية، لأن الدم إذا أربحهم على مدى قصير جداً، سيجعلنا نخسر جميعنا وطننا وأنفسنا.
المسيحيون ليس لهم أعداء في الداخل، ووجودهم مرتبط بوجود كل الطوائف.
المسلمون لن يعيشوا يوماً بسلام إذا استقووا، ولن تبقى لهم قوة بلا المسيحيين.
المطلوب من الجميع: حكمة ومنطق وهدوء، وليس غريزة وتعصباً وانفعالاً، لأن الكل يحلم بسبعيناتنا، أما نحن فعلينا الدخول في المستقبل. يكفي فتنة ورعباً عند كل كوع!