| جورج علم |
لا تزال رياح “الخماسيّة” غير مؤاتية والمركب اللبناني، ما يباعد بين دولها أكثر مّما يقرّب، والأولويات التي تتصدّر اهتماماتها ليس لها فيها كلمة الفصل في ظلّ الصراع العابر للقارات حول الطاقة، والغذاء، وتغيير المناخ، وسباق التسلح، والركود الاقتصادي، والانقسام الخطير داخل مجلس الأمن بين مجموعة الخمس الدائمة العضوية، حيث تستقر الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في كفة، فيما تستقر روسيا والصين في الكفة الموازية لتحقيق نسبة من توازن القوى على طول خطّ التماس الأوكراني الساخن، والمدروز بشتى الألغام المتفجرة .
ولا تزال إيران القويّة في لبنان، خارج الإصطفاف، تبحر بعيداً، لحماية موقعها، ومصالحها. مشكلتها داخليّة، قبل أن تكون مع الآخرين. أزمة الحجاب لم تنته فصولاً. أزمة الثقة ما بين المحافظين والإصلاحييّن نحو المزيد من التفاقم حول الخيارات الاقتصاديّة والثقافيّة في زمن الإنفتاح، والسباق التكنولوجي، والتطور الرقمي. هل الأولويّة لدبلوماسيّة الصاروخ المدجّج بعقائد إيديولوجيّة، أم لدبلوماسيّة القفّازات الحريريّة التي تحاول أن تقلّد الصين باعتماد “الحزام والطريق” مع دول الخليج، والقوى العالميّة المتهافتة على منابع الغاز، والنفط، والطاقة.
حتى التعاطي مع الولايات المتحدة لم يحسم بعد، بين من يؤيد الصفقات المفتوحة التي تأخذ كل التراكمات بسلّة واحدة للوصول الى مخارج ترفع العقوبات وتفرج عن الأموال المجمّدة وتعيد نفطها والغاز الى الأسواق العالميّة متحررة من القيود والعوائق، وبين من يريد الحوار “عالقطعة” وفتح مسار ضيق على ملف محدد، أو أولوية ضاغطة دون الرضوخ لتعهدات وإلتزامات قد تكون مكلفة للنظام، ومرتكزاته.
حتى اتفاق بكين الشهير ما بينها وبين المملكة العربيّة السعوديّة، والتي بنيت على أساساته الهشّة قباب مذهبة، لم يزهر ربيعه بعد، والأمثلة كثيرة.
في اليمن لا يزال الحوثي يمسك باللجام، يسرج خيله لجولة جديدة من الكرّ والفر، ثم يعود فجأة الى المرابض تحت شعار “العودة للنظر بالحسابات”!
في سوريا: برق، ورعد، وزمهرير، رغم التغني بالسماء الصافية، والعرى الوثيقة. زار قبل أيام وزير الخارجيّة فيصل المقداد العاصمة الإيرانيّة على رأس وفد سياسي ـ اقتصادي رفيع. البيان الرسمي يفيد بأن الهدف تفعيل 15 مذكّرة تفاهم، تمّ التوافق حولها خلال زيارة الرئيس إبراهيم رئيسي إلى دمشق نهاية نيسان الماضي. خارج البيان الرسمي، يبرز دافعان وراء الزيارة:
• التفاهم على المناطق الحرّة بحيث تكون بعيدة نسبيّاً عن العاصمة دمشق، والمناطق الحيويّة للدولة، للحدّ من الخسائر نتيجة الاعتداءات الإسرائيليّة التي غالباً ما تستهدف هذه المناطق.
• التخفيف من الهيمنة الإقتصاديّة الإيرانيّة، إفساحاً في المجال أمام استثمارات إماراتيّة وعُمانيّة، سوريا بأمس الحاجة اليها للتخفيف من أزمتها الإقتصاديّة الخانقة.
لم تصدر بيانات تشرح حقيقة الموقف الرسمي الإيراني لما جرى، لكن المؤشرات توحي بان ” المصالح مصانة… لكن القلوب مليانة”.
في السعودية: زار، قبل أيام، مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان الرياض، واجتمع مطولا بولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وأعلن الرئيس جو بايدن على الأثر أن “اتفاق التطبيع بين السعوديّة وإسرائيل، قد يكون في الطريق”. وعلّق المتحدث بإسم وزارة الخارجيّة الإيرانيّة ناصر كنعاني أن “تطبيع العلاقات بين السعوديّة وإسرائيل من شأنه أن يلحق ضرراً بالسلم والاستقرار في المنطقة”.
في لبنان: ظهر إنقلاب مفاجىء على الخيار الثالث لإنجاز الإستحقاق الرئاسي. فجأة يتحدّث الإعلام عن حوار متجدد بين رئيس تكتل “لبنان القوي” جبران باسيل، و”حزب الله”، و”الثنائي الشيعي”، وسائر مكونات محور الممانعة. وكأن الإستحقاق ينتظر جبران. هكذا يصوّره بعض الإعلام الممانع. وهكذا يسوّق لعناوين “الصفقة، تنفيذ بعض المطالب، مقابل انتخاب سليمان فرنجيّة”.
حتى الآن، لا تصريح، ولا توضيح حول ما يحاك في الكواليس. فالأقلام تحبّر، والتحليلات تعتمد على فرضيات، أكثر مّما تستند إلى معلومات. قد يفعلها جبران، ويعود كالإبن الضّال تحت عباءة الحزب، إذا ما توافرت الضمانات لمستقبله السياسي. يتصرّف وكأنه “بيضة قبّان الإستحقاق”، أو “القوّة الثالثة” التي يحتاجها كلّ طرف للفوز بخياراته.
لم يكن اجتماع البيّاضة، بينه وبين الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، من “الوزن الخفيف”. للرجل واقعيته. حاول أن يقفل النوافذ المطلّة على الخيار الثالث. وإذا ما خيّر بين جوزاف عون، وسليمان فرنجيّة، فإنه سيختار حتماً “أهون اللدودين”، ولذلك فتح كوّة على حارة حريك، لعلّ وعسى.. بعدما رفضته المعارضة، ومانعت عودته الى صفوفها الأماميّة.
الكل يتذكر وقائع جلسة 14 حزيران وما سبقها. بعض المعارضة طالبه يومها بفحص دم. بعضها الآخر انتابه القلق في حال نجح في تموضعه الجديد. وبعد أسابيع من الأخذ والرد، كان تفاهم على التقاطع فقط. تقاطع على إسم جهاد أزعور، خارج الإسم، كلّ يذهب بريحه، لا خطة، لا جدول أعمال، لا تفاهم على أولويات، بل تلاقي حول مرشّح لتسجيل موقف، وإنقاذ ما تبقى من ماء وجه.
الآن، حسابات جديدة، ومقاربات مختلفة. إيران تمسك بقوّة بزمام الدفة اللبنانيّة. “الثنائي” متمسّك بمرشحه. “حزب الله”، وفي ذروة التحولات الإقليميّة والدوليّة، أكثر حرصاً من ذي قبل على هالة نفوذه، ومطامحه في الداخل والإقليم. يدرك تماماً أن المحور المقابل يستند إلى جبل من سراب، وأشرعة من ورق، وعندما ” تعجز” الإدارة الأميركيّة عن توفير الغاز من مصر، والكهرباء من الأردن، وفق ما وعدت سفيرتها في بيروت قبل نيّف وعام، فلا حول لدى السياديّين ولا قوة في الإعتماد على قصاصات الورق، وما تحمل من وعود، وشعارات.
زمن “قصقص ورق ساويهم ناس” ولّى. إنه زمن الحقائق التي تصنعها الشفار المقطّرة!