| جورج علم |
أصبح الإستحقاق الرئاسي ممكناً. أنجز “الثنائي” خريطة الطريق. حدّد ما يريد من أهداف ومرامي. إستثمر في الفراغ وامتلك أوراقا قويّة، بينها حاكميّة مصرف لبنان، إلى جانب وزارة المال، ووزارة الأشغال، والمرفأ، وترسيم الحدود البحريّة، وملف استكشاف النفط، والغاز، وموانىء البرّ والبحر، وشبكات التنصّت والإتصالات، ومجالات حيويّة أخرى. وأي رئيس سيأتي، سيكون ملتزماً بتنفيذ الخريطة… وإلاّ لا رئيس.
وبرزت في الآونة الأخيرة إشارات محليّة وإقليميّة، شجّعت “الثنائي” على إدراج الإستحقاق الرئاسي كبند أول على جدول أعماله، أو مصنّفاً ضمن الأولويات. وأدرك “حزب الله” بأن كفّة الفراغ بدأت تميل بالإتجاه المعاكس، ولم تسهم في إطلاق ورشة الحوار، ولا تأمين النصاب حول طاولته. وإن إستمرار الوضع على ما هو عليه، يعني تفريغ الثلاثيّة الذهبيّة: جيش، وشعب، ومقاومة من عناصر قوتها، وإن الخطاب الحماسي تحوّل ـ خارج بيئة المقاومة ـ إلى لغة خشبيّة، يقابلها مزاج شعبي بعدم الإكتراث.
وشهدت دار الفتوى مؤخراً سلسلة لقاءات واجتماعات، كانت لافتة من حيث الشكل والمضمون، وأعطت إشارات قويّة بأن المملكة العربيّة السعوديّة لن تتخلّى عن دورها في لبنان. وأن تفاهمها مع إيران قد فتح الباب على الإنفتاح، وهذا من حيث بعده اللبناني لن يكون على حساب المكونات الأخرى المعارضة لمحور الممانعة، سواء أكانت سنيّة أو درزيّة أو مسيحيّة. وأن إيران المعنيّة مباشرة بتفعيل مصالحها، لا يمكنها أن تغض الطرف عمّا يجري، ولا أن تقف معاندة للمناخ السعودي التوافقي مع مجموعة الدول الخمس، لإنقاذ لبنان من أزمته، وفق سلّة متكاملة، ضمنها انتخاب رئيس للجمهوريّة، والتوافق على رئيس الحكومة، والفريق الوزاري، والإصلاحات الضروريّة.
حتى فرنسا، صاحبة الدور والحضور، دخلت حقل الإستثمارات من الباب الواسع، ومدّت شبكة من التعاون والتنسيق مع “حزب الله”، لتسهيل أمورها، وضمان مصالحها، من ترسيم الحدود البحريّة، إلى شركة “توتال” العملاقة، ودورها في بحر الناقورة، والحقل رقم 9، إلى مرفأ بيروت، ومحطة الحاويات، ومشاريع التوسيع والتحديث المتنقلة في حقيبة وزير الأشغال ما بين باريس وحارة حريك.
اختارت فرنسا المكّون القوي على الساحة لضمان مصالحها. تجاهلت الحليف التاريخي. تنكّرت للحنين العابق من ضلوع الأرز إلى “الأم الحنون”. لم يعد المكوّن المسيحي، وتحديداً الماروني، في موقع القوّة، ولا في موقع القرار، إنه منشغل في حروب الإلغاء داخل بيئته، بين أحزابه، وتياراته. إنه في الطريق نحو الإضمحلال، والزوال، والرهان عليه رهان على سراب، ولا بدّ من الإتكاء على فائض القوّة، لضمان الدور، والحضور، والإستمراريّة.
حاولت أن تتفرّد، أطلّت من حرائق وسحب دخان الرابع من آب 2020 بمبادرة إنقاذيّة. تفقّد الرئيس إيمانويل ماكرون المرفأ المدمّر. جال في المناطق المنكوبة من العاصمة، متضامناً مع السكّان الملتاعين. وزار بيروت ثانية، وطرح في الثاني من أيلول من ذلك العام مبادرة في قصر الصنوبر على أمراء الطوائف، وتقبّلوها مطأطئي الرؤوس، إمتثالاً وإحتراماً، ولكنها لم تنفّذ، بقيت حبراً على ورق، لأن فرنسا لم تعد وحدها هنا، ولم يعد لبنان مربط خيلها في ظلّ مرابط الخيول الأخرى، من أميركيّة وإيرانيّة وخليجيّة، وجنسيات أخرى… فالملعب مهيأ، والظروف مؤاتية، والغلبة لمن يفز بالشوط!
حاول الرئيس ماكرون ان يعيد الكرّة على مسافة زمنيّة من الذكرى الثالثة للرابع من آب. طرح سلّة متكاملة على قاعدة رئيس من محور الممانعة، مقابل رئيس للحكومة من محور المعارضة، إلى جانب فريق وزاري من أهل الإختصاص، مع قائمة بالبنود الإصلاحيّة الضروريّة. لكن يبدو أن الرياح كانت معاكسة، ولم تهب وفق ما تشتهي أشرعته. عيّن دبلوماسيّاً محترفاً، وصاحب تجربة، كموفد رئاسيّ. حطّ وطار. ثمّ جاء فغادر على وعد.. “نلتقي في أيلول”.
تريد فرنسا كسب الجنّة. ما لها بنار جهنّم.. وأطلال عهد جهنّم؟! تريد الإستثمار. تريد الشريك القوي لضمان مشاريعها. وتريد البيئة الهادئة المتصالحة المؤاتية للإستثمار، ومن هنا تنطلق. قاعدتها مصالحها. أما قواعد العمل، فما يتطابق لتحقيق هذه المصالح. وليس الثنائي ـ وتحديداً “حزب الله” ـ بمنأى عن هذه الأغراض والأهداف والمطامح والمطامع. ولأنه يعرف، نجح في توسيع دائرة نفوذه. حدّد ما يريده من هذا اللبنان خلال السنوات الست المقبلة، وعندما اطمئن الى الدراسات والهندسات والضمانات، وضع نصب عينيه انتخاب رئيس، وفتح باب الحوار.
لم يتجاوب أحد مع الدعوة. وقد لا يتمّ تجاوب، ولا حتى في أيلول. المشكلة مبسّطة بما يكفي. فائض القوّة يريد لبنان وفق معايير قوّته ومواصفات دوره في الإقليم، في حين أن مكونات أخرى تريد لبنان متحرّراً من سطوة فائض القوّة، وأدواره المعاكسة لطبيعة لبنان، ورسالته في المحيطين العربي، والأقليمي.
ربما لم يعد الإستحقاق يغري، ولا انتخاب رئيس في ظلّ الهيمنة التي تستبيح كلّ شيء، وتخترق كل الخطوط الحمراء. كان الشعار في ما مضى “لبنان لنا ولكم”. تطوّر مع بدء الشغور الرئاسي، وتمدّد أمد الفراغ إلى شعار: “لنا لبناننا، ولكم لبنانكم”.
اليوم، وعلى مشارف الذكرى الثالثة لإنفجار المرفأ، ترفع يافطات عدة عند مدخل الرابع من آب 2023، إحداها تقول: “إذا كانت المصيبة تفرّق، فما الذي يجمع؟!”.. أما الثانية فأدهى: “ما هو المشترك الذي ما زال يجمع بين اللبنانييّن؟! في الأمس، وعلى مدى نيف و17 سنة من الإقتتال، كانت الليرة تجمع. اليوم إنها بضيافة فريق يتحكّم بمقدّراتها”.. وثالثة تقول: “بمناسبة الذكرى الثالثة.. ممنوع التدخين”!