لبنان يجلس في “القرنة” بإنتظار التحقيقات.. والرئاسة على “سياحتها” بين الدول!

“الدم ما بيصير ماي” . هكذا يقول مثلنا اللبناني . لكن ما حصل امس في القرنة السوداء اثبت ان المياه يمكن ان تتحول دما ! فهل الجريمة المزدوجة صراع على مياه القرنة السوداء، ام ثمة من يخطط ويسعى لتنفيذ سيناريوهات سوداء؟ حتى الان لا اجابات قاطعة بانتظار التحقيقات التي تجريها استخبارات الجيش. والواضح ان القوى الامنية تشك بوجود أمر ما مدبر ومعد له سلفا، ادى الى مصرع هيثم ومالك طوق. مصادر متابعة تؤكد ان ما تعرض له هيثم طوق هو في مثابة كمين ومخطط له بدقة. وهو امر مستغرب وخصوصا في هذا التوقيت بالذات . فالخلافات بين بشري والضنية ليست جديدة ، وتتكرر سنويا ، لكنها تحل على الطريقة اللبنانية، اي بالتي هي احسن . وهذه السنة لم يكن الوضع متوترا اكثر من السنوات الفائتة . فلماذا اذا تم نصب كمين؟ والا يمكن بالتالي الشك في وجود مخطط ما يتم الاعداد له انطلاقا من الشمال ؟ وهذا الامر بالذات هو ما دفع المرجعيات الروحية والقيادات السياسية المعنية الى رفع الصوت عاليا، داعية الى التهدئة وعدم الانجرار وراء الفتنة. ولعل مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان كان الاوضح والاصرح، اذ اشار الى وجود طابور خامس يسعى الى تسعير الفتنة والاصطياد بالماء العكر. فهل تؤدي التحقيقات الى كشف الطابور الخامس المذكور، ام ستذهب دماء هيثم ومالك طوق هدرا ويبقى الطابور الخامس مختبئا في عمق اعماق اعلى قمة في لبنان؟

لكنّ امكان وجود طابور خامس لا يعفي الدولة من مسؤولياتِها، وهي مسؤوليةٌ مزدوجة. المسؤوليةُ الاولى امنية، اذ تبينَ بالدليل القاطع ان الحكومةَ غائبة عن السمع منذ حوالى ستٍ وثلاثين ساعة. فاينَ رئيسُ الحكومة؟ واين الوزارات المعنية؟ ولماذا لم تتم دعوة مجلس الامن المركزي لمتابعة تطوراتِ الجريمة المزدوجة واستهدافاتِها وتداعياتِها الخطرة على السِلم الاهلي؟ وهل مسموحٌ ان يكونَ نجيب ميقاتي “شاطر” فقط في التعيينات والترقيات ، لكنه يتهربُ من مواجهة مسؤولياتِه ” عند الحزة” ؟ المسؤوليةُ الثانية تتشاركُ فيها الحكوماتُ المتعاقبة منذ الاستقلال الى اليوم. فالاهمالُ هو ما اوصلَ الامورَ الى ما وصلت اليه، وسمحَ للطوابير الخامسة ان تتسللَ في الظلام. ان ثلاثين في المئة من الاراضي اللبنانية لم تشمُلْها اعمالُ المِساحة حتى الان، ولا سيما في الجرود حيث تكثرُ النزاعاتُ على الاراضي والمشاعات. فهل التقصيرُ طبيعي؟ اليستْ جريمةُ الحكومات المتعاقبة اقوى واكثر دموية من الجريمة المزدوجة التي حصلت امس؟ واذا كان الرزق السائب يُعلِّم الناس الحرام، فكل الخِشية ان يؤدي الرزق السائب والاراضي غير الممسوحة الى تعليم الناس القتل وارتكاب الجرائم بدمٍ بارد. فهل تستفيقُ الحكومة الميقاتية، النائمة نومة اهل الكهف، قبل ان تتحول مياه لبنان انهرا من دماء وشلالاتٍ من دموع؟

تعالوا نتحاور كي تقبلوا بمرشحنا الذي تعارضون، رئيسا.

وفق هذا المنطق تتوالى الدعوات الحوارية الرئاسية يوميا من ثنائي حركة أمل-حزب الله، لتقابل بديهيا برفض من المتقاطعين على منع وصول سليمان فرنجية، حيث يدعو فريق منهم الى التوافق على خيار ثالث ينبثق من الميثاق ويتوج تفاهما على مشروع اصلاحي، فيما يكرر فريق آخر المطالبة بعقد جلسات مفتوحة في مجلس النواب وصولا الى انتخاب رئيس.

وفي هذه الدوامة، البلاد عالقة منذ تسعة اشهر واكثر، فيما أفق الحل مسدود، والتعويل اللبناني على الدور الفرنسي لم يعد كبيرا، في وقت يتابع المعنيون انغماس الرئيس الفرنسي في مشكلاته الداخلية، وآخرها اعمال العنف الحالية.

وفيما يحاول اللبنانيون تمضية صيف حافل بالزوار والسياحة، جاءت حادثة القرنة السوداء لترخي بظلها الحزين على المشهد المحلي، وسط تضامن كامل مع اهالي بشري، ودعوات الى الاحتكام الى مرجعية الدولة وتكريس منطق العدالة.

مع انقضاء عطلة عيد الأضحى المبارك، يفترض أن تستعيد الدورة السياسية بعض حراكها، من دون توقع اختراقات على المسار الرئاسي قبل عودة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان الذي تشهد بلاده اضطرابات واسعة.

أما الأسبوعُ الحالي فيقفل على حادثة أمنية سقط فيها قتيلان في القرنة السوداء، حيث توجد أراض متنازعٌ عليها عقارياً بين بشري والضنية.

لكن تدخل الجيش اللبناني وتحرك القضاء ومساعي المرجعيات والقوى السياسية نجحت في لجم تداعيات الحادثة ومنع توسعها نحو نزاعات طائفية  وسياسية. فالجيش نفذ سريعاً انتشاراً في المنطقة وأوقف عدداً من الأشخاص وضبط أسلحة حربية وذخائر.

وعلى خط مواز، باشرت قاضية التحقيق الأولى والنائبة العامة الإستئنافية في الشمال تحقيقاتهما وإجراءاتهما القضائية اللازمة.

وفي الوقت نفسه، ساد استنفار واسع على مستوى المرجعيات السياسية، برزت فيه الإتصالات التي أجراها الرئيس نبيه بري وشدد خلالها على توخي الحكمة، داعياً إلى عدم الإنجرار وراء الأحكام المسبقة والشائعات بانتظار جلاء الحقيقة الكاملة.

وفيما شدد مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان على استخدام لغة العقل وتحكيم الوجدان الوطني، دعا البطريرك الماروني بشارة الراعي أهالي بشري إلى ضبط النفس قائلاً “إننا نعول على الجيش لضبط الأمن”.

في سوريا، عدوان إسرائيلي جديد استهدف هذه المرة حمص انطلاقاً من الأجواء اللبنانية، وقد تصدت له الدفاعات الجوية السورية التي انفجرت بعض صواريخها المضادة للطائرات في فلسطين المحتلة.

أبعدَ من سوريا وفلسطين، عاشت فرنسا ليلة خامسة من التوتر وإن كانت وتيرة الإضطرابات خلالها أقل من الليالي السابقة.

وبحسب السلطات الفرنسية فإن عدداً محدوداً من الحوادث سجل خلال الساعات الأخيرة في مرسيليا وليون وكولومب واعتقلت الشرطة أكثر من سبعمئة شخص تشتبه في قيامهم بأعمال شغب.

في غضون ذلك، تدرس الحكومة فرض حال طوارىء في أرجاء البلاد لاحتواء الإضطرابات التي دفعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إلغاء زيارته لألمانيا التي كان من المقرر أن تبدأ مساء أمس.

مدينة بشري، كما عموم اللبنانيين، في انتظار نتائج التحقيق في مقتل هيثم طوق ثم مالك طوق، لأن ما قبل جلاء التحقيق، فإن معظم اللبنانيين، مقيمين، وفي دنيا الإغتراب، أصبحوا محققين وخبراء أسلحة وطب شرعي وعلم الجريمة، تماما كما تحولوا إلى خبراء زلازل، بعد الزلزال، وخبراء أوبئة أثناء كورونا، وخبراء لقاحات، وخبراء متفجرات بعد انفجار أو تفجير المرفأ.

حادثة بشري وقعت أمس، وحتى الساعة، من يستطيع إحصاء التغريدات وكلام المنصات وغيرها، عن ظروف هذه الحادثة… كلام عن قنص من بعيد، ثم إطلاق نار من قريب، ثم اشتباك، ثم ثلاثة قتلى، ثم عودة إلى قتيلين، ثم إطلاق النار تم من مروحية الجيش، ثم إطلاق نار على الجيش، ثم أن الموقوفين بالعشرات، ثم ظهور مسلح…

شعب يعرف كل شيء، وخبير في كل شيء…

ولكن بعد آلاف التغريدات، يبقى السؤال: ما حقيقة ما جرى؟ بكل بساطة، المطلوب انتظار التحقيق، والمطلوب تسريع التحقيق، لئلا يبقى ما حصل عرضة للتجاذبات والتغريدات والإشاعات.

غدا، تشيع بشري هيثم ومالك طوق، وبلديتها أعلنت الحداد التام غدا الإثنين، وطلبت التزام الحداد والاقفال.

سياسيا، انتهت العطلة ليستمر التعطيل، ولا جلسة لمجلس الوزراء بسبب عدم وجود جدول الأعمال، لكن هناك اجتماع وزاري غدا في السرايا لبحث ملف المطار، بعد جولة الرئيس ميقاتي فيه، على أن يضم الإجتماع وزراء الداخلية والأشغال والسياحة والمدير العام للأمن العام ورئيس الميدل إيست. ويأتي هذا الاجتماع بعد الضغط الهائل على المطار حيث عدد الركاب بين وافدين ومغادرين تجاوز ال35 ألفا يوميا.

في فرنسا، استمرت أعمال الشغب، وربطا بهذه التطورات، شغب في سويسرا، فقد أعلنت الشرطة السويسرية توقيف ستة شبان وشخص راشد في أعقاب اضطرابات ليلية في مدينة لوزان، تأثر منفذوها بأعمال الشغب في فرنسا.

نزِل لبنان من قِمِّته السوداء وجلسَ “في القرنة” ينتظرُ استكمالَ التحقيقاتِ في جريمة شباب ِآل طوق بشري والتي تجّنبت حتى الساعة الوقوع َ في الفِتنة. وحجْمُ الاتصالات من سياسيةٍ الى دينيةٍ فحزبية وفاعليات ونواب اعطت ثِماراً طيّبة وافسحت في المجال لبدءِ التحقيقات الامنية والقضائية، وهي من المرات النادرة التي يتمكّن فيها شريطُ الهاتف من نزعِ شريط  النار او تأجيلِ مفاعيله التي كانت تُهدد قِمةً وسهْلاً وجبلاً. ولعل تعددْ الرواياتِ عن حادثةِ مقتلِ الشابين هيثم ومالك طوق اعطى اهالي بشري فرصةً لتسلّم الروايةِ الرسمية من اصحاب الشأن في الدولة، لاسيما بعد اشارةِ الجيش اللبناني الى انه كان حذَّرَ في بيانٍ سابق المواطنين من الاقتراب من منطقةٍ لتدريبٍ عسكرية في القُرنة السوداء. والتدريب العسكري عَنَتْ فيه قيادة ُالجيش تدريباً لعناصرِها وليس لأيٍّ من المجموعات كما تَردد . اما عامل التّروي الثاني فيَستندُ الى التقريرِ الطبي الذي وافقَ عليه الطبيبان العسكري والمدني الشرعي حيثُ تبيَّن لديهِما استبعاد فرضية القنص، وهذا ما تقاطعَ مع شهادةِ المدير الطبي لمستشفى بشرّي الحكومي الدكتور إبراهيم مقدسي، مشيراً  للنهار إلى أنّ الوفاةَ حصلت جرّاء إطلاقِ نار من مِسافةٍ قريبة. ويُنتظر ان يحسِمَ القضاء في هذه الروايات، وتحديدا في ظروفِ واسباب مقتل ِمالك طوق التي ترددَ انها وقعت في منطقةِ اشتباكٍ عسكري. ولحين تِبيان الوقائع فإن بشري تُشيِّع الشابيْن المغدوريْن عصرَ غدٍ وتعلوها حتى الساعة اصوات الحِكمة مع ضرورةِ التسريع في كشفِ ملابسات الجريمة. ولعِب النائبان ستريدا طوق جعجع ووليم جبران طوق دورا في توسيعِ رُقعةِ الاتصالات ونشرِ التهدئة، لكن مع الاصرار على تسليمِ الجُناة الى العدالة،  وهو المسارُ نفسُه الذي خطاه نوابُ “القاطع الثاني” عبر كلٍّ من النائب فيصل كرامي المُقيم صيْفا في بقاعصُفرين ونائب الضّنية جهاد الصمد، والجميع من بْقاعصُفرين والضنية الى بشري وما بينَهُما من عقاراتٍ ومحطات مياه متنازَع عليها، اخمدَ النزاع مرحليا وقلّد السلطاتِ الامنية والقضائية زِمامَ الحسم. واذا مرّت مراسمُ التشييع غدا تحت ظِلال هذه التهدئه، فان البلاد تكونُ قد قطعت رأسَ الفِتنة من اعلى القِمم.

وغدا، تنطلق مراسمُ التدابير الحكومية التي تبدأُ باجتماعٍ وزاري امني لمعالجةِ فوضى المطار في موسمِ الصيف وقدوم المغتربين والسواح. اما الرئاسة فتُبقي على سياحتِها بين الدول الخمس والمُرشّحة لان تصبح سُداسية بانضمامِ ايران كما تَردد. والشغور في كرسي الرئاسة الاولى سيكونُ معرَّضا لخطرِ التوطين والاقامة الدائمة ..وأعلى قِمةٍ سوف يتسلَّقُها هي الحوار الخاوي من مضامينَ جِدية ما عدا كسب الوقت.

والوقت الضائع كان صديقَ النائبِ الصادق, حبيبِ الجنوب الذي سكنَ في الصمت طويلا قبل ان يودعنا اليوم تاركا الجنوب لاقطاعه السياسي الطويل .

حبيب صادق ودعته النبطية بعد ان القت الخيام عليه السلام ونعاه مرسيل خليفة صديقا للثورة والنار ِشريكا ً لهبوب الاعصار.

لم تخل نهاية عطلة العيد في لبنان من تقاطع التناقضات: توترات مقلقة احتاجت الكثير من الحكمة لضبط تداعياتها بعد مقتل مواطنين في القرنة السوداء ، مقابل انفراجة طفيفة بانخفاض سعر صرف الدولار الى حدود التسعين الف ليرة بغض النظر عن الاسباب التي تحتاج الى قراءة حقيقية..

لا شك ان حادثة القرنة السوداء محكومة للاتصالات بين مختلف الاوساط السياسية والامنية والاهلية لتطويق النتائج، ولا شك أيضا ان مثل هذه الاحداث تزيد اعباء البلد اذا ما اضيفت الى الاثقال السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تنتظر بداية سليمة وسريعة للحل تكون بانتخاب رئيس للجمهورية. ورئاسيا لا استشراف لاي تقدم نحو نهاية قريبة، في وقت تزداد التحديات المعيشية قسوة وتحديدا على موظفي الادارات الرسمية الذين قضوا العيد من دون رواتب وينتظرون طلوع شمس الغد ليقرروا وجهة تحركاتهم.

وفي طهران، سجلت مساع جديدة لوزير العمل مصطفى بيرم على طريق تعزيز القطاعات العمالية في لبنان بالخبرات العالمية بهدف نقلها الى حيز جديد يفيد بنهوض البلد من ازمته الانتاجية التي فرضتها السياسات الريعية المدمرة.

عالميا لم تخرج فرنسا من ازمتها التي ولدتها الممارسات العرقية للشرطة، وتعمد افرادها القتل بدم بارد كما حصل مع الفتى الجزائري نائل المرزوقي ، وكل مناطقها تكون يوميا مرشحة للاشتعال والتوتر الذي يحذر اوروبيون من تحوله الى حرب اهلية.