/ جورج علم /
لا مواعيد محددة، ولا حلول مؤكدة، لكن مهمّة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان لن تنتهي إلى فراغ، كونها لم تولد من فراغ، بل من مبادرة تعثّرت، لكنها لم تسقط، وتخضع حاليّاً لعملية “تأهيل” و”تجميل”.
اختير بعد محادثات مكثّفة اختتمها البطريرك بشارة الراعي بزيارة قصر الإليزيه. كانت هناك أسباب حتّمت اختياره، منها: حرص الرئيس إيمانويل ماكرون على الدور التاريخي لفرنسا تجاه لبنان. إيمانه بأهميّة موقعه الإستراتيجي ما بين الشرق والغرب. إقتناعه بشيفرة الأرقام حول الفوائد الإستثماريّة التي توفّرها قطاعاته للإقتصاد الفرنسي. متابعته للمتغيّرات الجيوسياسيّة التي يخضع لها الشرق الأوسط، ما يجعل البوابة اللبنانيّة ممرّاً إلزاميا لفرنسا تجاه دول المنطقة. إصراره على أن يبقى لبنان ملاذاً، وشرفة فرنكوفونيّة مطلّة على الشرق، والخليج.
وتتحدث الصحافة الفرنسيّة عن شخصيّة لودريان كواحد من مؤسسي حزب “فرنسا الى الأمام”، والمؤمن بـ”ظاهرة ماكرون” الشبابيّة التغييريّة. كان له الداعم، والمستشار الأول بإمتياز خلال الولاية الرئاسيّة الأولى، والساهر اليقظ على مسار الولاية الثانيّة. كتب له يوماً “لا يجوز أن تسقط الماكرونيّة مرّتين في لبنان”، ربما كان هذا العنوان المفتاح الذي سرّع الإختيار، وأطلق يده لتصويب المسار.
كان في صفوف المتحفّظين على المبادرة التي أطلقها ماكرون في قصر الصنوبر في الثاني من أيلول 2020. لكنّه كان في صفوف المؤمنين بحتمية حضور فرنسا في لبنان أيّاً يكن الثمن. وعندما خرجت المبادرة الثنائيّة (سليمان فرنجيّة ـ نواف سلام) من مطابخ الإليزيه، ترك ملاحظاته حولها على مكتب الرئيس قبل أن يعود إلى موقعه كمتابع ومراقب.
الآن هو في الميدان، إختاره ماكرون ليوظّف الخبرة، ويفعّل التجربة حتى “لا تسقط الماكرونيّة مرّتين في لبنان”.
خلال لقائه مع ممثلي دول اللقاء الخماسي في قصر الصنوبر، طرح نظريّة “التكامل في التعامل”، وهي نظريّة تقوم على بعدين متلازمين: الإستحقاق، من منظاره، لا يقتصر فقط على الرئيس، بل على السلّة المتكاملة، أي الرئيس، ورئيس الوزراء، والوزراء، والمواصفات المطلوبة بفريق العمل اللبناني الذي سيتولى عمليّة الإنقاذ. ثم الضمانات، أو ما يفترض التفاهم بشأنها، والتوافق على تأمينها، لكي يصار إلى وضع “الفول بالمكيول”.
ما نقل عنه أن المبادرة متوازنة لبنانيّاً ووطنيّاً. رئيس من “الموارنة الأقوياء” يتمسّك به الثنائي الشيعي، وله حيثيّة سياسيّة منفتحة، مقابل فريق عمل وزاري تنفيذي، منبثق من المكونات الميثاقيّة المكمّلة للشراكة الوطنيّة، والحريصة على لبنان الرسالة، والإنفتاح، والتنوع.
يقينه أن الضمانات يفترض أن تكون متوازنة أيضاً، وهي متعثّرة محليّاً في ظلّ الإنقسام العمودي ما بين منطق الدولة ومنطق الدويلة، وغياب الحوار، وإنعدام جسور التواصل، وتمادي الانهيارات الماليّة، والاقتصاديّة، والاستشفائيّة، والتربويّة، وتفكك المؤسسات، وتراجع الخدمات… وبالتالي لو كان الأمر ممكناً لكان نواب الأمة قد انتخبوا رئيساً “صنع في لبنان”، أما أن يكون العجز هو الفائز الأوحد على مدى 12 محاولة جرت في قاعة مجلس النواب، فهذا يعني مدى الحاجة الملّحة إلى تفعيل المسؤوليّة المعنويّة الملقاة على عاتق الخماسي الذي ارتضى يوماً أن يجتمع في باريس خلال شباط المنصرم حول ما يجب عمله تجاه لبنان.
يعتبر أن المبادرة الثنائيّة، لكي تكتمل مواصفاتها، وتأخذ طريقها نحو التنفيذ، بحاجة إلى خريطة طريق تشارك في هندستها الولايات المتحدة إلى جانب إيران، وفرنسا إلى جانب السعوديّة، ومصر، وقطر. خريطة طريق متوازنة لا يفرضها “الثنائي” على السياديين والتغييريّين والمستقلين، ولا يفرضها مجموع هذه المكونات على “الثنائي”. أي المطلوب تنظيف الطريق من “عبوات” التحدّي، ومرشّح التحدّي، وبيانات التحدي، وتكوين برنامج عمل من بنود واضحة يصار إلى التوافق حولها بين دول (5+1)، ليصار إلى تأمين التوافق داخليّاً من خلال حوار مسؤول لا بدّ منه للوصول إلى مجلس النواب، وانتخاب رئيس، والإنصراف إلى تفعيل المؤسسات.
وتتضمن المفكّرة المتداولة ما بين (5 + 1) عناوين عريضة: الإصلاحات الملحّة. إستكمال تطبيق الطائف. الإستراتيجيّة الدفاعيّة. عودة النازحين. الصندوق السيادي للنفط. ومواضيع أخرى أثيرت خلال جولة لودريان الأخيرة على الفعاليات.
ووفق المتداول، فإن الرجل ليس بائع أوهام، صقلته التجربة، ومدّته الخبرة بحكمة، وأناة، وتبصّر. درس الملف اللبناني منذ سنوات، تعمّق بتفاصيله، واختبر معدن أمراء الطوائف. يعرف أن فرنسا لا تستطيع وحدها أن تأتي بالمعجزات. ويعرف أن الدول المؤثّرة لها أولوياتها، ومشاكلها، وملفاتها التي تتجاوز الشأن اللبناني. ويعرف أن الحوار الداخلي يصبح ممكناً ومنتجاً إذا تأمن له الغطاء العربي ـ الإقليمي ـ الدولي، وجدول الأعمال، ليصار إلى إنجاز الإستحقاق، وتشكيل فريق العمل القادر على وضعه موضع التنفيذ.
يعرف أن مهمّة فرنسا ـ مهمته ـ إقناع دول اللقاء الخماسي، زائد إيران، بالتوافق على طاولة حوار تضمّ حولها جميع المكونات، سواء في مجلس النواب، أو في مكان آخر يصار التفاهم حوله، لإقرار العناوين العريضة للبيان الوزاري للحكومة التي ستتولّى مسؤولية التنفيذ برعاية رئيس الجمهورية الذي يمثّل رأس الهرم.
ويعرف أيضاً أن عامل الوقت مهم، وقد أشار إلى ذلك في البيان الذي أعلنه قبيل مغادرته لبنان. وهو يعوّل ـ كما يتردّد ـ على تقاربين:
تقارب إيران من السعوديّة، ودول مجلس التعاون الخليجي، بعد الجولة الأخيرة الناجحة لوزير الخارجيّة حسين أمير عبد اللهيان على كل من قطر، وسلطنة عمان، والكويت، ودولة الإمارات. والتقارب الإيراني ـ الأميركي حول إمكانية التوصل إلى إتفاق مرحلي حول البرنامج النووي، وإطلاق المحتجزين الأميركيّين، والإفراج عن الأموال الإيرانيّة المجمدة.
ما فهمه ممثلو دول الخماسي الدولي أن مهمّة لو دريان في لبنان، إنقاذ المبادرة الخاصة بالإستحقاق الرئاسي. لا يريد أن تسقط “الماكرونيّة” مرتين… فهل ينجح؟!