/ جورج علم /
مُرحّب به من غالبيّة اللبنانيّين، كونه يحمل بصيص أمل وسط هذا الإنسداد المدلهم. ويبقى سؤالان برسم الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان: هل من تفويض أميركي ـ إيراني يطلق يد فرنسا في لبنان؟ وهل من تصوّر واضح مشترك حول أيّ لبنان؟
يأتي… والإنقسام على أشدّه بين أمراء الطوائف. فريق ينتصر للبنان الدويلة، وفريق يتحزّب للبنان الدولة. الخلاف بجوهره ليس حول أيّ رئيس، بل حول أيّ لبنان؟ وأيّ كيان؟ وأيّ نظام؟ وأيّ خيارات ثقافيّة، وماليّة، واقتصاديّة، وإنمائيّة؟!
يأتي… والإنقسام على أشدّه بين الدول الكبرى المؤثّرة. الولايات المتحدة تريد رئيساً يكمل مسار التطبيع مع العدو الإسرائيلي. إتفاق ترسيم الحدود البحريّة، بنظر واشتطن، مجرّد خطوة في مسافة الألف ميل، ولا بدّ من اجتياز المسافة، واختيار فريق عمل مرن يكمل المهمّة. الإتحاد الأوروبي يريد لبنان الذي يدمج النازحين في مجتمعه. هكذا أعلن المسؤول عن السياسة الخارجيّة للإتحاد الأوروبي جوزيب برويل قبل أيام. إيران تريد ما يريده “حزب الله” للبنان، ومن لبنان، والثقة عميقة بين الطرفين. السعوديّة لا تريد شيئاً لنفسها، لن تتدخل، وتطلب من اللبنانيين اختيار رئيسهم، لتحكم على النتائج، وتقرّر الدعم، أو النأي بالنفس!
وليس من خريطة طريق واضحة بعد حول أيّ لبنان؟ لعبة المصالح نهمة، وكل طرف ينتصر لمصالحه. اللبنانيّون منقسمون، لا يجمع ما بينهم سوى النكد السياسي، والدول الشقيقة، والصديقة لم تلتق بعد حول تسوية شاملة مكتملة المواصفات.
هناك حوار أميركي ـ إيراني برعاية قطريّة ـ عُمانيّة، هل يثمر، ويؤدي إلى ما يمكن البناء عليه؟ وزير الخارجيّة الإيراني حسين أمير عبد اللهيان يتحرّك ما بين الدوحة ومسقط، للوصول إلى نتائج مقبولة. الإفراج عن ودائع إيرانيّة مجمدة في كلّ من العراق وكوريا الجنوبيّة، يوحي وكأن شيئاً بدأ يتحرك بصورة إيجابيّة ما بين واشنطن وطهران، فهل يفضي ذلك إلى إطلاق يد فرنسا في لبنان؟ ربما تتضح بعض المعالم في ضوء مهمّة لودريان في بيروت؟
بالمقابل، عاد اللقاء الخماسي ليمارس دوره، أمضى إجازة طويلة، منذ اجتماع باريس في شباط الماضي ولغاية اليوم لم ينتج طحيناً. هناك الكثير من الكلام حول اجتماعات، واتصالات، ومشاورات بين مكوّناته، لكن لا جملة مفيدة، ولا شيء يغري الظمآن بقرب الإرتواء. اليوم، تغيّر المشهد، حرّك الموفد الفرنسي شبكة الإتصال مع عواصم الدول المعنيّة. لا يريد الإستفراد… ولا يريد الفشل… يعرف أن فرنسا ليست وحدها على الساحة اللبنانيّة، ولا تمتلك امتيازاً على سائر المكونات، وأمراء الطوائف، أمراء الإستمراريّة في حمى النظام الطائفي، وكلّ كلام عن تغيير محتمل، إنما يحتاج إلى إفادة إثبات.
لم يعد لبنان تحت وصاية الإنتداب الفرنسي، ولا الشغوف بـ”الأم الحنون”. حبّرت أوراقه سرديات التاريخ الحديث، وكشفت أخاديده نوائب الجغرافيا. حوّلته المصالح المتطاحنة إلى ساحة للإستثمار، أو لإلتقاط الأنفاس، تحسّباً لمواجهات جديدة، وما يقلق أن عامل الوقت لم يعد ضمانة، ولا يشكّل عنصر اطمئنان لأي شقيق مهتّم، أو صديق طامح. المؤسسات تتفسّخ وتنهار، الفراغ يمدّ بساطه ليشمل وظائف الفئة الأولى في الدولة. الأمن الإجتماعي يتخطّى الخطوط الحمراء. التغيير الديموغرافي في سباق مع الوقت. الشباب ما بين الهجرة، والبطالة، والإنتحار، كلّها عوامل تؤكد بأن الأزمة ليست استحقاقاً رئاسياً، بل أزمة وطن، وخيارات، ومصير، ومستقبل. والفوضى ليست دائماً ولاّدة حلول، بقدر ماهي ولاّدة أزمات متناسلة.
كان الاعتقاد بأن القاطرة الخارجيّة بدأت تتحرك، لكن جلسة 14 حزيران أكدت أن السفينة اللبنانيّة المتهالكة لا زالت على شفا الغرق، ولو كان من مؤشر خارجيّ “زابط”، أو من وحيّ “هابط”، لتمّ انتخاب رئيس في المكان والزمان، وبدأ فصل المواسم، لكن السيدة الأميركيّة فيكتوريا لولاند، إكتفت بالإتصال والإستفسار، ثم بإبداء الأسف لفقدان النصاب في الدورة الثانية.
أمضى رئيسها المباشر، وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن، ثلاثة أيام بضيافة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، حبّرت الصحافة الأميركيّة صفحات عن المواضيع التي تمّ بحثها، ولم تأت على ذكر عبارة واحدة حول لبنان. المفوّض المحلّف بترسيم الحدود البحريّة مع العدو الإسرائيلي آموس هوكشتاين إستبعد خيار الرئيس التحدي، لكنه تفوّه بعبارة تنطوي على دلالة لمصلحة قائد الجيش العماد جوزيف عون، عندما قال إن “اللبنانييّن اعتادوا على انتخاب قائد الجيش رئيسا للجمهوريّة”! القطري الذي صنّفه الرئيس الأميركي جو بايدن بأنه من أقرب الدول، من خارج حلف “الناتو”، تحالفاً وتناغماً، كانت ملائكته ـ ولا تزال ـ ناشطة على مساحة المربعات اللبنانيّة الطوائفيّة، تدعو إلى الإعتدال والتوافق، لتمرير الإستحقاق الرئاسي عن طريق اعتماد الخيار الثالث، وقد طرحت في كواليس محددة إسم قائد الجيش كرجل المرحلة. مشكلة القطري أنه لم يمد بعد جسور التواصل مع دمشق، لكن له علاقات وثيقة جدّاً مع الولايات المتحدة، وإيران، وفرنسا، والسعوديّة، ومصر، وبإستطاعته أن يدوّر الزوايا الحادة، والدليل أن رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجيّة القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أعلن بالفم الملآن، على هامش مؤتمر مكافحة الأرهاب الذي استضافته الرياض مؤخراً، أن بلاده “تنسّق مع فرنسا حول لبنان”.
ما هو حجم هذا التنسيق؟ ما هي دلالاته؟ وهل يحمل لودريان تفويضاً من الولايات المتحدة، وإيران، وسائر دول “اللقاء الخماسي”، يطلق يده لإخراج الإستحقاق الرئاسي من عنق الزجاجة، ووضع لبنان على سكة الخروج من النفق؟
صحيفة “واشنطن بوست” تقول: “علينا انتظار الدخان الأبيض يتصاعد من الدوحة، ومسقط، للتأكيد على أن اتفاقا مرحليّاً قد حصل ما بين واشنطن وطهران، لا يحتاج ـ دستوريّا ـ عرضه على الكونغرس للموافقة عليه”!