/ جورج علم /
بدأ الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان استكشاف آفاق مهمته في لبنان مع الدول المعنيّة، أو المؤثرّة. إنه صاحب تجربة غنيّة في العلاقات الدوليّة، يدرك الصعوبات، يعرف المخاطر، ولا يهوى الخطوات المتسرّعة في زمن الحسابات الدقيقة، والأزمات المتفاقمة.
يعرف أن زلزال أوكرانيا يترك إرتدادات على الشرق الأوسط. لا يمكن أن تبقى الأوضاع على ما هي عليه. هناك جائحة ما، أو حدث درامي قد يطيح بموازين القوى. إيران متورّطة، مسيّراتها في الفضاء الأوكراني ترسم أكثر من علامات استفهام. برنامجها النووي يقلق حكومة العدو الإسرائيلي. صاروخها الفارط للصوت يشغل دوائر البنتاغون. تمدّد التنين الصيني في الخليج ليس مجرّد نزهة في حقول النفط . الهواجس تكبر، ومنسوب المخاطر يرتفع، ولا يمكن أن تبقى ترددات الزلزال حكراً على الولايات المتحدة، والإتحاد الأوروبي، وحلف “الناتو”، فيما الشرق الأوسط متأرجح بين مدّ وجزر، أميركي ـ إيراني ـ صيني، وباب مشرّع على كل الإحتمالات.
قد تكون مهمة لودريان راهناً، أشبه بطبيب مخدّر، يحمل مسكّناً فرنسيّاً لتخدير الوضع اللبناني أبعد فترة ممكنة. عليه أن يوفّق بين ما تريده الولايات المتحدة من لبنان، وما تريده إسرائيل أيضاً، وما تريده إيران، ومصر، والسعوديّة، وقطر، ناهيك عن روسيا، وتقاطع المصالح. إن توافقاً ما بين هذه الدول شبه متعذّر، وإن حصل، قد يكون من خلال تحويل هذا اللبنان إلى رقعة شطرنج، لكل دولة حصة، ولها فيه حصان ملك.
تنتظره بيروت في صالة النكد السياسي، وقد رفعت يافطات الترحيب بلاءات ثلاث:
الأولى أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون، بعيد مؤتمر “باريس ـ 3” لدعم لبنان: “لا مساعدات من دون إصلاحات”.
الثانية، بُعيد المبادرة الفرنسيّة في قصر الصنوبر في الثاني من أيلول 2020: “لا ثقة للمجتمع الدولي بالطبقة السياسيّة الفاسدة”.
الثالثة، أطلقها أمراء الطوائف: “لا انتخابات، إلا بعد تفاهمات، وتوافقات”!
يبدأ تحرّكه بزيارة “ضريح” المبادرة الفرنسيّة في قصر الصنوبر، يحاول أن يحيي الرميم. إنه موفد رئاسي، لمبادرة رئاسيّة دفنها أمراء الطوائف بأرض فرنسيّة في باحة القصر، بتاريخ مرّ عليه الزمن.
كانت يومها، بمضامينها، وتعدد صفحاتها، مشروع بيان وزاري لحكومة إنقاذية، طالب ماكرون بتأليفها في غضون أسبوعين، مع صلاحيات استثنائية، تمكّنها من المباشرة بوضع الإصلاحات موضع التنفيذ.
اليوم مطلوب مبادرة يشارك في صياغتها إلى جانب الفرنسي، الأميركي، والإيراني، والقطري، والسعودي، والمصري، وربما دول، ومرجعيات أخرى، يصار في ضوئها، إنتخاب رئيس، وتشكيل حكومة إنقاذيّة برئاسة “سوبرمان” إستثنائي، للمباشرة بوضع بنودها موضع التنفيذ.
عليه أن يتواضع أولاً، ويعيد النظر بـ”اللاءات” الثلاث، ويتحدث “إلى الطبقة السياسيّة الفاسدة التي لا ثقة للمجتمع الدولي بها”، إنهم المعطّلون، لكنهم لا زالوا أمراء الدار، وأصحاب القرار.
وعليه أن يتواضع ثانياً، لأن مصالح بلاده تقضي بذلك. مصالح فرنسا في بحر صور، في غاز لبنان ونفطه، في المرفأ وأحواضه ومشاريع تطويره، في الكهرباء، والمصانع، ومحطات التوليد، في البنى التحتية، في القطاع المالي والمصرفي، وفي قطاعات الصحة، والإستشفاء، والتربيّة، والجامعة، والمدرسة، ومستقبل الفرنكوفونيّة في بلد الأرز.
وعليه أن يتواضع ثالثاً، وينسّق مع “أولياء الأمر”، سواء في الداخل أو مع الخارج المؤثر، ليتمكّن من وضع مرشح التحدي على الرف، والنظر إلى المرشح التوافقي من منظار الحوار للوصول إلى تسوية شاملة يعتلي حصانها الأبيض صاحب الفخامة، ومن حوله أعيان الحكومة القادرة على وضع ما حُبّر على الورق، موضع التنفيذ على أرض الواقع.
ربما تفرض مهمته، وبعد شوط من العمل الشاق، إعداد طاولة الحوار، وهندسة شكلها، وتحديد مكانها، وزمانها، وجدول الأعمال، والمستلزمات، ومن أين تبدأ؟ وكيف ستنتهي؟
ويحتاج الحوار إلى خريطة طريق. لم تعد مبادرة أيلول 2020 تفي بالأهداف المطلوبة، إنها بحاجة الى إعادة نظر، وإلى تنقيح، وإضافات يتولاها الشركاء الآخرون.
إن معادلة سليمان فرنجيّة ـ نوّاف سلام عند الشاطىء، ولو كانت الرياح الخارجيّة مؤاتيّة، لكان المركب قد شقّ طريقه نحو شاطىء الأمان، بمعزل عن التقاطعات الداخليّة، لكن حسابات الحقل الخارجي لم تتطابق مع حسابات البيدر الفرنسي. أو بكلام أكثر صراحة، ليس مسموحاً أن تتولّى فرنسا وحدها شأن الملف اللبناني. ليس مسموحاً أن تكون مصالحها أولاً، وفوق أيّ اعتبار، فيما مصالح الدول الأخرى في مراتب متباعدة. وليس مسموحاً أن يكون الرئيس ماكرون “مرشد الجمهوريّة اللبنانيّة” ـ بالمعنى السياسي للكلمة ـ فيما الدول الأخرى في صفوف “الكومبارس”!
ويتزامن تعيين لودريان، مع البيان الختامي لوزراء خارجيّة دول مجلس التعاون الخليجي الذي طالب بإنتخاب رئيس، وتشكيل حكومة، وتنفيذ الإصلاحات، وبسط سلطة الدولة، وتنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة، وإنهاء دور ظاهرة السلاح اللاشرعي، ووقف تصنيع وتصدير المخدرات…
ويتزامن مع التعيين، خطف مواطن سعودي، ومنع مواطنة كويتيّة من الدخول، وتحذيرات صادرة عن بعثات دبلوماسيّة معتمدة في بيروت تدعو مواطنيها إلى تفادي زيارة مناطق معينة في لبنان، أو اعتماد الحذر الشديد عند التنقل في مناطق أخرى… كلّ ذلك على عتبة صيف واعد.
ويتزامن التعييّن، بعد صدور حكم قضائي بمقتل الجندي الإيرلندي العامل ضمن فريق القبعات الزرق (اليونيفيل) في الجنوب، وبعد تحركات مجهولة المقاصد والخلفيات في بعض المواقع المتقدمة عند الخط الأزرق، وبعد تهديدات رئيس حكومة العدو، بأن أي عدوان قد يشنّه ضد المفاعلات النووية، سيستبقه بعدوان صاعق على لبنان!
ويبقى أن البلد المنكوب بأمرائه، ليس بحاجة الى لاءات ـ يكفيه ما عنده، أو ما هو مستورد ـ إنه بحاجة الى مبادرات تحفظ له كيانه، وتنوعه، ووحدة ترابه… إنها أمنيات يعرفها جيداً جان إيف لودريان… فهل يتمكّن؟