/ هيام القصيفي/
يتعدّى تعيين جان إيف لودريان موفداً خاصاً إلى لبنان ملف الاستحقاق الرئاسي. مجرّد اختياره يعكس خشية فرنسية مستجدّة على مستقبل الوضع اللبناني، وفشل إدارة الرئيس الفرنسي، والقلق من الغموض الذي يحيط بالموقف الأميركي من لبنان.
اختيار الوزير الفرنسي السابق جان إيف لودريان موفداً خاصاً للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان خبر في حدّ ذاته. فمجرّد تعيين سياسي رفيع ومحنّك، يعني أنه أكثر من تعيين موفد رئاسي فرنسي، بل يعكس حسب المعلومات خوفاً فرنسياً على الوضع اللبناني.
واختيار لودريان ليس خطوة عادية في مسار الدبلوماسية والسياسة الفرنسيتين. فهو كان أول من حذّر من خطورة الوضع اللبناني، وسبق الجميع – لبنانيين وغربيين وعرباً – في التنبيه من ذلك، قبل تظاهرات 17 تشرين وانفجار مرفأ بيروت وبعده. وهو تحدّث أمام مجلس الشيوخ الفرنسي عن احتمالات سيئة للوضع اللبناني، وصولاً إلى عبارته التي اشتهرت عن أن انهيار لبنان السياسي والاقتصادي “كانهيار سفينة تايتانيك، لكن من دون موسيقى”.
ولودريان المخضرم والأرفع مرتبة وشأناً بين السفراء الذين كلّفهم ماكرون بإدارة ملف الرئاسة في لبنان، انتهج سياسة خارجية في ما يخص لبنان متمايزة، في شكل لافت، عن السياق الذي ذهبت إليه إدارة الرئيس الفرنسي أو خلية الإليزيه، مع كل ما شهدته من ربط نزاع مع الخارجية حتى بعد خروجه منها. والرجل الذي لم يتقاعد، بل كان اسمه مطروحاً لرئاسة معهد العالم العربي، وجرت الاستعانة به مجدداً في مهمة سياسية فوق العادة، يحمل في جعبته مجموعة من الأفكار والعناصر.
وهو ليس موفداً رئاسياً ربطاً بجلسة انتخاب رئيس الجمهورية والانقسام الحالي بين المرشحين جهاد أزعور وسليمان فرنجية، ولا بمصير جلسة الأربعاء المقبل. ورغم مواقفه المعروفة من الطبقة السياسية وضرورة الإصلاحات، لا يأتي بخلفية الانحياز إلى فريق دون آخر، بل يحمل ملفاً ملتهباً يحفظه بدقّة منذ سنوات. وأهميته أنه يعرف جيداً كل من يفترض أن يتعامل معهم، ولا سيما أنه من الجيل السياسي الفرنسي الذي لا تزال تربطه علاقة وجدانية مع لبنان وصيغته السياسية، من دون إخفاء انتقاداته الحادة للسياسيين وشبكات الفساد في لبنان.
منذ أواخر آذار الفائت، ومع أول زيارة للموفد القطري وزير الدولة في وزارة الخارجية محمد بن عبد العزيز بن صالح الخليفي الذي شارك في اللقاء الخماسي إلى بيروت، بخلفية أميركية بحتٍ، استشعرت فرنسا محاولة لسحب البساط اللبناني من تحتها. ووصلتها رسائل واضحة بأن مساعيها تصطدم برفض مطلق لما يعدّه فريق الإليزيه في شأن الرئاسة اللبنانية. ولم يكن في قدرة باريس، بما تمثله من حضور دبلوماسي وسياسي، أن تسجل تراجعاً دراماتيكياً عن خطوات أثبتت فشلها. علماً أنه لا يمكن لأي إدارة أن تتحمل تبعات هذا التطور السلبي، فكيف الحال وإدارة ماكرون تواجه سيلاً من الانتقادات في سياستها الداخلية والخارجية. ولأن التراجع التكتيكي يحتاج إلى خطوة كبرى تغطّي الإرباك الذي وصل إلى حد مؤثر في السياسة الداخلية الفرنسية، والفشل الذي مُنيت به إدارة ماكرون لملف لبنان بدءاً من مرحلة ما بعد انفجار بيروت، اختير لودريان.
يضاف إلى ذلك عنوان أكثر خطورة بالنسبة إلى لبنان، وهو أن باريس لم تتمكن من التقاط ما تريده واشنطن فعلياً من لبنان: هل تريد الولايات المتحدة استقراراً أم ترك الوضع اللبناني نحو مزيد من الانهيار؟
كان هذا السؤال مركزياً لدى دوائر نقاش فعلي ومتابعة، خارج إطار ما فعلته الدبلوماسية في بيروت، والسفيرة آن غريو التي كانت في باريس، أو مستشار الرئيس الفرنسي لشؤون الشرق الأوسط باتريك دوريل. والواقع أن ما خلصت إليه هذه النقاشات والاتصالات بين باريس وأكثر من عاصمة معنية بلبنان، أفضى إلى نتيجة مقلقة، جعلت باريس خائفة على الوضع ومستقبل لبنان. ولم تعد القضية المركزية هي رئاسة الجمهورية وانتخاب رئيس فحسب، بل صار السؤال كيف يمكن لباريس التي أضاعت أشهراً في نقاشات عقيمة حول مبادرات رئاسية وأسماء ولقاءات دبلوماسية مع أطراف لبنانيين، أن تتحمل داخلياً وخارجياً وزر الانهيار المتوقع، وهذا كان في صلب نقاشات في مجلسي النواب والشيوخ وفي الخارجية والإليزيه. تدريجاً، توضّحت صورة المخاوف حول مستقبل لبنان، لدى من يتقدمون في الساحة الداخلية، في وقت وصل الفريق المكلّف بإدارة ملف الرئاسة إلى حائط مسدود، وترافق ذلك مع ارتفاع حدّة الانتقادات من أفرقاء وأحزاب لبنانية ضد إدارة ماكرون وأسلوبها في التعاطي مع ملف الرئاسة.
أتى تعيين لودريان موفداً رئاسياً، أوسع مدى من مهمة السفير بيار دوكان المحال على التقاعد. والأخير كان حصر مهمته بالملف الاقتصادي ومفاوضات صندوق النقد، ما يفترض أن يعطي الملف اللبناني إطاراً سياسياً واقتصادياً موسّعاً. ولودريان، الآتي من وزارتي الدفاع والخارجية اللتين تسلّمهما في أوقات سياسية مهمة لفرنسا، ويملك شبكة علاقات واسعة عربية ودولية، بينها خبراته في عقود الأسلحة وفي الحضور الدبلوماسي الفرنسي في المنطقة، مخوّل بأداء دور محوري في طرح اقتراحات لمعالجة الأزمة ككل. ومن الخطأ فرنسياً، التعامل مع هذه المهمة على أنها محصورة باتجاه رئاسي حصراً، بعدما ظهر أن العوامل التي استوجبت تعيينه دقيقة وحسّاسة ومتعددة الاتجاهات. ولأنه رافق محطات وخضات لبنانية، وتقاطعها إقليمياً ودولياً، من شأن مهمته أن تفتح الباب أمام مساحة أوسع لمعالجة الأزمة ككل. ومن غير المتوقّع أن يكون لودريان مهادناً، وهو معروف بحدّة مواقفه من دون مواربة، ولا سيما إذا كان الأمر يتعلق بمستقبل لبنان الذي يكرّر دوماً حرصه على خصوصيته وضرورة الحفاظ عليه.