عميل للموساد في مطار بيروت

/ رضوان مرتضى/  

مطلع نيسان 2021، أوقف فرع المعلومات عميلاً للموساد بعدما كشف التقصي الفني تواصلاً بينه وبين مشغليه استمر منذ 2019. العميل الذي كان موقوفاً في قصر العدل بتهمة الاتجار بالمخدرات زوّد مشغّليه بتفاصيل دقيقة حول مطار بيروت بحكم عمله في صيانة المولدات، شملت كل أقسامه وعمل أجهزته الأمنية وطرق الدخول اليه والخروج منه، كما كُلّف بتقصّي “مستودعات السلاح” التابعة للحزب في محيط المطار.

في تموز 2019 نشر حسين ج. (مواليد 1992، بلدة علي النهري) الذي يعمل في شركة لصيانة المولّدات في مطار بيروت، إعلاناً على صفحته على “فايسبوك” يعرض فيه بيع كُليته لإجراء جراحة لابنه البالغ من العمر عاماً واحداً. استرعى الإعلان انتباه “الدكتور جورج” الذي أرسل إلى حسين عبارة “Hello” عبر الماسنجر، قبل أن يتصل به بواسطة التطبيق نفسه. عرّف الرجل الذي يتحدث بلهجة فلسطينية عن نفسه بأنه طبيب يعمل في روسيا وأفريقيا، وأعرب عن تعاطفه واستعداده لتقديم المساعدة. ونصح حسين بتحميل تطبيق linked in  وإنشاء حساب عليه وإرسال سيرته الذاتية إلى شركة تعمل في صيانة المولّدات تُدعى Imeno lopez، مؤكداً أنه سيتوسط له لدى إدارة الشركة. استمرت المخابرة نحو 45 دقيقة، طرح خلالها “الدكتور” أسئلة كثيرة وتفاصيل حول هوية حسين وعمله وانتمائه الديني والسياسي ومكان سكنه. تحت ضغط الحاجة إلى المساعدة، استرسل حسين، كما يقول، في سرد تفاصيل كثيرة، فأخبر المتصل أنه يقيم في الشويفات، وأنه وشقيقه ينتميان إلى حركة أمل، وأن له أقاربَ يعملون في أجهزة أمنية، وأن لا علاقة قرابة له بأيّ من قيادات حزب الله.

فور انتهاء الاتصال، أنشأ حسين حساباً على linked in وأرسل عبارة hello الى حساب الشركة، فأتى الجواب بالإنكليزية على الفور: “الرجاء أرسل سيرتك الذاتية”، وهو ما فعله. جاءه الردّ بأن التواصل سيجري معه بعد درس الطلب. مرّ أسبوعان من دون جواب، فراسل “جورج” الذي اتصل به عبر الماسنجر، وأبلغه بأنه سيتوسّط له لدى الشركة. بعد دقائق، تلقّى حسين رسالة من الشركة تسأله عما إذا كان مستعداً للعمل في الخارج، وأن يرسل صورة عن جواز سفره في حال كان الجواب بالإيجاب. بعدها، عاود الطبيب المزعوم التواصل معه وأخبره أنّ الشركة أُعجِبت بملفه وستوظّفه بعد إخضاعه لاختبار.

كان الاختبار تصوير مولّد كهرباء قرب مستودع لشركة الموسوي في محلة الشويفات، بين العمروسية والأجنحة الخمسة، مع الطريق الفاصلة بينهما، المستودع مع الطرق المؤدية إليه، على أن تُرسل إليه الإحداثيات عبر البريد الإلكتروني، وأن يرسل الصور بالطريقة نفسها. بعد الموافقة، أرسل إليه “الدكتور” ملف pdf يحتوي على خريطة Google earth مع نقطة تحدّد الموقع. في اليوم التالي، توجه إلى الموقع والتقط الصور المطلوبة. بعد يومين، تلقّى اتصالاً من جورج أبلغه فيه أنّ الشركة تقدّر تنفيذه المهمة سريعاً، وحوّلت له 800 دولار عبر شركة لتحويل الأموال. مرّ نحو شهر ونصف شهر لم يسمع خلالها شيئاً من جورج أو من الشركة، رغم أنه راسلهما لمعرفة مصير العمل. بعدها، تلقّى اتصالاً من “الدكتور” أبلغه فيه أنّ الإجراءات تستغرق وقتاً، وسيتم التواصل معه لاحقاً.

مرّت 15 يوماً أخرى قبل أن يعاود جورج، في تشرين الثاني 2019، الاتصال بحسين لإبلاغه بأنّ الشركة تعمل على مشروع لاستقدام مولّدات اشتراك إلى Mall ومجمع سكني يتم إنشاؤهما في الضاحية، وأنه قد يُعيّن مديراً لهذا المشروع، طالباً منه تصوير الموقع الذي تسلّم إحداثياته عبر البريد الإلكتروني (تبيّن أنه في ملعب الراية)، مع طلب تصوير المباني المحيطة ومداخلها ومواقف السيارات وكاميرات المراقبة وأي تواجد أمني قريب. بعد عشرة أيام من تنفيذ المهمة، عاود جورج الاتصال، وشكا من أن حسين لم يقم بالعمل كما يجب، طالباً “دراسة أمنية” عن المكان. وقال حسين للمحققين: “طلب مني أن أدوّن بدقة تاريخ ووقت توجّهي لتنفيذ المهمة ووقت المغادرة، وكتابة مشاهداتي بالتفصيل، خصوصاً في ما يتعلق بالمباني وتقسيمها وكاميرات المراقبة والمداخل والمواقف، وأن لا يقتصر الأمر على الصور. كما طلب أن أقصد المكان مجدداً بعد خمسة أيام على تلقّي رسالة على البريد الإلكتروني كون الشركة تريد التصوير في يوم محدد”. وهو ما فعله حرفياً، إذ أرسل صوراً وحدّد مواقع كاميرات المراقبة مع تقرير يشرح كيفية إنجاز المهمة. إلا أن “الدكتور جورج” لم يتواصل معه حتى مطلع 2020، وأبلغه أنّ الشركة ممتنّة لعمله وحوّلت إليه 900 دولار.

عرض الموساد

بعد شهر على ثانية المهمتين – الاختبارين، تواصل شخص مع حسين، عبر حساب “جورج”، عرّف عن نفسه بأنه صديق الأخير واسمه “طوني”. في الاتصال الذي استمر نحو 10 دقائق، كان “طوني” مباشراً، إذ أبلغ حسين أنه من الموساد، وعرض العمل عليه لمصلحة الاستخبارات الإسرائيلية، ووعده بمساعدته بالسفر إلى أوروبا مع عائلته وطلب منه التفكير بالأمر. بعد أسبوعين بعث برسالة إلكترونية إلى “جورج” يبلغه بالموافقة. جاءته رسالة جوابية من “طوني” حدّد له فيها موعداً للاتصال به. في الموعد المحدد، رحّب به طوني في العمل معه، وكرّر طمأنته بأنه لن يتعرض لخطر، ووعده بأن يلتقيا قريباً، وأبلغه أن التواصل بينهما سيكون بموجب مواعيد تُحدّد عبر البريد الإلكتروني، وأن عليه انتظار التعليمات وعدم المبادرة إلى التواصل من تلقاء نفسه.

في الاتصال التالي، أبلغ حسين “طوني” أنه ترك العمل في المطار لأن الراتب لم يعد يكفيه، فطلب منه الأخير أن يحاول العودة إلى عمله، وسأله عن المباني المنجزة حديثاً في المطار، خصوصاً مبنى تدريب الطيارين ومبنى الشحن الجوي. وحرص على الاستفسار عن عدد الطبقات السفلية في المبنيين وأماكن وجود المولّدات وتمديدات الاتصالات والأسلاك الكهربائية. وعن الأجهزة الأمنية التي تعمل في المطار ووظيفة كل منها وأماكن انتشارها وكيفية الدخول إلى مختلف أقسام المطار والخروج منها، وعن الأماكن التي كان يُسمح له بالدخول إليها وما إذا كانت تخوّله الوصول إلى المدرج، وهل هناك أماكن تابعة لحزب الله في المطار، أو مداخل خاصة لعناصر الحزب، وهل شاهد أي عملية تمديد لشبكة اتصالات خاصة بالحزب في المطار. كذلك استوضح عن حائط المطار لجهة الكوكودي والإجراءات الأمنية المتّخذة على الواجهة البحرية وعن مستودع شركة الموسوي خلف حائط المطار وإمكانية تصويره. أبلغ حسين المحقّقين أنّ طوني بدا وكأنّه “على علم بكل تفاصيل أقسام المطار والمنطقة المحيطة”، إذ استفسر منه عن مداخله لناحية خلدة والأوزاعي ومن جهة الموسوي والبركات والكوكودي، وعن ميناء الأوزاعي بمحاذاة مدرج الهبوط. هذه الأسئلة كلها قدّم حسين ردوداً مفصلة عنها في تقرير أرسله إلى مشغّله، عبر البريد الإلكتروني، مع صورة واحدة التقطها لمستودع شركة الموسوي في منطقة البركات من داخل سيارته. ونال مقابل هذا التقرير المفصّل 500 دولار.

وأفاد حسين أمام المحققين بأنّ “طوني” تواصل معه مطلع أيار 2020، و”كان مضطرباً، وطلب مني الانتقال فوراً إلى موقع حدّده لي في محيط المطار، قائلاً: شفلي شو عم بصير وشو عم يتعمّر بلا تصوير. كان الموقع في منطقة البركات إلى جانب حائط المدرج. توجهت إلى المنطقة في سيارة تاكسي، فرأيت عناصر من حزب الله يقيمون منشأة على مساحة نحو ألف متر زُفّتت حديثاً. توقفت في محل إكسبرس لشراء قهوة، وسألت صاحبه عما يجري، فقال إنهم يقيمون خيمة عاشورائية”. كتب حسين تقريراً حول ما شاهده، فتلقّى 500 دولار.

بعد فترة، اتصل طوني بحسين بالطريقة المعتادة، وطلب منه تفاصيل حول ملعب لكرة القدم ملاصق لحائط المطار ومعرفة إذا ما كان هناك أي مستودع تحته. في تقريره، أرسل حسين صوراً، وكتب أن الموقع عبارة عن ملعب ميني فوتبول مُسيّج بشباك حديدية، وأنه شُيد على قاعدة من الباطون تبلغ سماكتها 30 سنتيمتراً من جهة وتنتهي في الجهة الأخرى بسماكة مترين بسبب انحدار الطريق. وأعرب عن اعتقاده بأن علو القاعدة من إحدى الجهتين أثار شكوكاً لدى الإسرائيليين في إمكان أن يكون الملعب قد شُيّد فوق مستودع للحزب. بعد إرساله التقرير، تسلّم العميل 500 دولار أخرى.

إلى إسطنبول

عقب انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، تلقّى حسين اتصالاً من المشغّل اطمأن فيه عليه. لكنه لاحظ أنّ حماسة طوني خفّت، وأن الأخير أكثر اهتماماً بالمطار، إذ كان يطلب منه دائماً أن يعود إلى عمله القديم، وهو ما لم يكن قادراً على فعله، لأنه طُرد بعدما ضبط يسرق كمية من الزيوت.

في أيلول 2020، سافر حسين إلى إسطنبول، وأرسل بريداً إلكترونياً إلى طوني يُخبره فيه أنّه في تركيا. أجابه الأخير مستوضحاً عن سبب وقدومه ولماذا لم يبلغه بذلك مسبقاً، “كان مستاء جداً، وقال إنه لن يتمكن من لقائي، وإنني لست من يحدد مكان اللقاء وموعده، وطلب مني العودة إلى بيروت”. بعد نحو شهر، عاود “طوني” التواصل، سائلاً حسين عما إذا كان لا يزال في إسطنبول، فأجاب بالإيجاب. عندها طلب منه محاولة السفر إلى قبرص أو الإمارات، لكن كانت هناك صعوبات في الحصول على تأشيرة دخول إلى أي من البلدين. عندها طلب منه البقاء في إسطنبول شهراً إضافياً على أن يتكفّل بنفقات إقامته.

مطلع 2021، طلب منه طوني، بإصرار، العودة إلى بيروت وأن يحاول العودة إلى عمله في المطار أياً يكن الراتب، واعداً بإعطائه 1000 دولار شهرياً. في شباط 2021، تواصل مع مديره القديم في شركة mets energy متوسّلاً إعادته إلى العمل بسبب سوء وضعه المادي، مبدياً الندم على السرقة. أمام إصراره، وافق المدير على إعادته إلى العمل مطلع آذار، على أن يداوم في فرع الشركة في بشامون. وعندما عرض أن يعود إلى عمله القديم في المطار لخبرته في العمل هناك، جاءه الجواب بأن الأمر مستحيل لأن السرقة التي ارتكبها أدّت إلى مشكلة مع شركة meas التابعة لـ MEA.

بعد نحو شهر من استئنافه العمل، اختلف مع أحد المديرين، فترك الشركة للعمل في إكسبرس نهاراً، وفي ترويج المخدّرات ليلاً. في 6 حزيران 2021، ألقى مكتب مكافحة المخدرات المركزي القبض على حسين في منطقة الحمرا بتهمة ترويج المخدرات، وضُبط الهاتف الذي كان يتواصل فيه مع مشغّله الإسرائيلي، من دون أن يلاحظ فنيو المكتب أي أمر مريب لأنه كان يقوم بمسح الرسائل. بعد نقله إلى قصر العدل في بيروت، تواصل مع طليقته طالباً منها زيارته وإحضار هاتفها، وطلب إذناً من النيابة العامة لإجراء “فيديو كول” مع أهله. في كانون الثاني 2022، حمّل تطبيق الماسنجر على هاتف طليقته من دون علمها وأرسل إلى مشغّله تسجيلاً صوتياً مخاطباً إياه بـ”أبو رامي”، وأبلغه بأنه موقوف في قصر العدل وبحاجة إلى مساعدة مادية، وأن “الجماعة (حزب الله) ركبولي فيلم مخدرات ليوقفوني”.

بالتوازي، كانت متابعة فرع المعلومات لنشاط الاستخبارات الإسرائيلية كشفت تواصلاً بين رقم هاتف لبناني ورقم هاتف إسرائيلي عبر تطبيق “ماسنجر”. بنتيجة المتابعة الفنية، تبيّن أنّ مُستخدم الرقم يُدعى حسين ج.، وبعد جولة من البحث، ومخابرة القضاء لتوقيفه، تبيّن أنه موقوف بالفعل في نظارة قصر العدل في بيروت بجرم ترويج مخدرات. في 1 نيسان 2022، تسلّم الفرع الموقوف ليبدأ استجوابه.

مهمة في علي النهري

في آذار 2020، تواصل “طوني” مع حسين وأرسل إليه إحداثيات لموقع في بلدة علي النهري مع صورة لثلاثة مبان متلاصقة في وسط البلدة، كل منها عبارة عن طابق أرضي، وشقق سكنية في الطابق الأول. طلب “طوني” من حسين جمع معلومات عن الموقع وتصويره ومعرفة مَن يسكن فيه ومَن يتردد إلى المحالّ التجارية، فأبلغه حسين بأنه يعرف من يسكن هذه الشقق، لكنه غير قادر على الذهاب إلى البلدة لئلا يثير الشبهات كونه نادراً ما يتردد إليها. وأرسل إليه تقريراً ذكر فيه أن سكان هذه الشقق ينتمون إلى حزب الله، وأعطى أسماءهم وما يعرفه عن طبيعة عملهم. كما أشار إلى أن أحد المحالّ يبيع ألبسة عسكرية، ويتردد إليه عناصر من الحزب ومن الأجهزة الأمنية اللبنانية. مقابل هذا التقرير المفصّل، تقاضى حسين 500 دولار.

مستودع وهمي!

بعد عودته من تركيا، أوهم حسين مشغّله بأنّ لديه معلومات عن مستودع لحزب الله في مبنى من ثلاث طبقات في محلة الجناح قرب دوار الجندولين، تشغل الطبقة الأرضية منه شركة للمواد الغذائية تابعة للحزب، والطبقة الثانية شركة ألومنيوم، فيما الطبقة السفلية عبارة عن مستودع مقفل يتولى عناصر من الحزب حراسته. أبدى طوني اهتماماً بالأمر، وطلب صوراً للمكان، وتقريراً حول الإجراءات فيه، فتوجه إلى المكان بحجة الكشف على المولّد، مستغلاً معرفته بالموظفين، وعدم علمهم بتركه العمل في شركة الصيانة. توجه إلى الطبقة السفلية حيث توجد غرف مغلقة والتقط صوراً بهاتفه الخلوي الذي كان موضوعاً على خصره، وحفّظ موقع المستودع على تطبيق google earth… وكتب في تقريره أن الحراسة شديدة حول المستودع، إضافة إلى وجود كاميرات مراقبة، ما حال دون تمكنه من معرفة ما يوجد في داخله. ونال لقاء هذه المهمة 500 دولار.