/ جورج علم /
عندما يصبح الحاكم محاكماً، يجوز السؤال عن مكامن الخلل، هل هي في النظام، أم عند المؤتمنين على تطبيقه؟
ظاهرة رياض سلامة ليست وليدة الأمس الذي عبر، إنها فعل تراكمات، على مدى سنوات، كان خلالها “السياديّون” يكيلون لها المدائح. لم يحدّثنا الماضي السياسي القريب، عن تشكيل محكمة خاصّة للنظر بالهندسات الماليّة. لم يبادر المجلس “السيّد نفسه” إلى فضح المستور، من خلال لجنة نيابيّة تمثّل مختلف المكونات، للنظر بالتجاوزات، وتصويب المسارات.
لم يكن رياض سلامة وحده يحكم البلاد، ويسوس العباد، هناك من معه في الشراكة الوطنيّة، وتحمّل المسؤوليّة. وأكلة الجبنة، كانوا في الأمس البعيد، شركاء الرئيس فؤاد شهاب في إنجازاته، لكنهم لم يكونوا ـ كما هو الحال اليوم ـ على هذا المستوى من الشراهة، والوقاحة.
مثل سلامة أمام قوس العدالة. وللقضاء حرمته، ومساره. وإلى أن يحين موعد صدور الأحكام، لا بدّ من إرتشاف فنجان من القهوة المرّة في الحديقة الخلفيّة للمكان، والإصغاء إلى الدردشات المتداولة حول موضة الإلغاء الرائجة في البلد.
هناك من يتحدث عن محاولات دؤوبة ممنهجة لإلغاء وطن بخصائصه وخصوصياته، بصيغته وميثاقه، وأعرافه، وأنماط عيشه المشترك، حيث لا حوار ولا تلاقي ولا كلمة سواء، ولا همّة صادقة لوقف الإنهيار، ورفع الغبن، والإبقاء على البقيّة المتبقيّة من “سويسرا الشرق”.
هناك من يتحدّث عن تصميم مبرمج لإلغاء مرتكزات مكوّن تأسيسي لدولة لبنان الكبير، من معالمه الفراغ على مستوى رئاسة الجمهوريّة، وتفريغ حاكميّة مصرف لبنان، واستهداف القضاء، وهرميّة مجلسه الأعلى.
وهناك من يلقي باللّوم الكبير على الناخب، المسؤول الأول عن واقع الحال، لأنه وحده يملك صلاحيّة التغيير من خلال صندوقة الإقتراع، وحده القادر أن يختار الصالح، ويهمل الطالح. لكن ما العمل إذا كان الوعي الوطني ينتهي عند الرشوة، أو المصلحة الآنيّة، او الطائفيّة، أو “بيّي أقوى من بيّك”؟!…
وفي الحديقة الخلفيّة اللصيقة بالكيان والنظام، دردشة واسعة حول معاول الهدم، وحديث عن صفقات لا حدّ لها، ولا حصر، ينتظرها أمراء الطوائف بفارغ الصبر للإستفادة. صفقة لإنتخاب رئيس، ووضع حدّ للفراغ. صفقة ترتّب وقائعها حاليّاً لحاكميّة مصرف لبنان. صفقة لإعادة تعويم القطاع المصرفي، وسدّ فجواته الواسعة. صفقة لإعادة إعمار مرفأ بيروت، ومعالجة الجراح التي ختمت على زغل. صفقة للحدّ من الإجتياح السياسي لقصر العدل، والذي ترك ندوباً على جسم القضاء. وصفقة لـ…
حجة الزعماء أن النظام الطائفي قلاع محصنّة، لا تخترقها عقوبات خارجيّة، ولا تربكها عراضات داخليّة، وكما تحلّلت إنتفاضة 17 تشرين، وانتهت إلى سراب، هكذا قصاصات الورق التي يلّوح بها بعض الخارج عن عقوبات وملاحقات.
وفي الحديقة الخلفيّة اللصيقة بالكيان والنظام، دردشات بين أمراء الطوائف تشير إلى أن زمن التسويات قد لاحت مؤشراته. إنعقاد القمّة العربيّة في جدّة تمّ نتيجة تسوية كبرى ـ أشبه بصفقة ـ مهّد لها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بمهارة، وحسن تدبير. من معالمها البيان الثلاثي في بكين، والتفاهم السعودي ـ الإيراني، والدور السعودي في الإفراج عن معتقلين روس وأوكرانييّن، والوساطة التي تضطلع بها الرياض ما بين موسكو وكييف لجمع الطرفين حول طاولة حوار تضع حدّاً للنزاع المدمّر، وشبك أواصر جديدة من العلاقات مع واشنطن، واعتماد سياسة نفطيّة متبصّرة داخل منظمة “اوبيك +” لا تربك فلاديمير بوتين، ولا تزعج جو بايدن.
وعودة سوريا إلى الجامعة العربيّة أبعد من عنوان إخباري، إنها ثمرة صفقة أبرمتها تواقيع كثيرة، بدءاً من واشنطن، مروراً بموسكو، وأنقرة، وعواصم أخرى، بينها الرياض، وأبو ظبي، ومسقط، وصولاً الى جدّة حاضنة القمّة.
وأزمة لبنان لا تعالجها فقرة وردت في البيان الختامي للقمّة. المواطن العادي الذي اكتوى ويكتوي من نار جهنّم، يتوسّل معجزة، فيما أمراء الطوائف يراهنون على صفقة تحت عنوان تسوية، وهي ـ بنظرهم ـ آتية لا محال، وحجّتهم في ذلك:
- لا يمكن الاحتفاء بعودة سوريا في الوقت الذي يفقد فيه لبنان موقعه، ومقومات بقائه، بفضل أزماته المتناسلة التي باتت تشكل خطراً على وحدة الأرض، والشعب، ومصير الكيان، ومستقبله.
- لا يمكن معالجة مصانع المخدرات، وشبكاتها الناشطة في سوريا، وترك لبنان حديقة خلفيّة، وساحة مباحة للتصنيع، والإستيراد، والتصدير. إن المؤسسات ـ أو ما تبقى منها ـ تقوم بواجباتها وفق الإمكانات المتوافرة، لكن معاول الهدم أقوى، وأفعل من حبر البيانات المسكوب على الورق.
- لا يمكن بناء جسور التواصل ما بين الخليج ومحيطه، وصواعق التفجير لا تزال في عرمتى، ومناطق أخرى. ولا يمكن الحديث عن مسار تطبيعيّ شفّاف من نتاج التفاهم السعودي ـ الإيراني، فيما خطوط التماس اللبنانيّة الفاصلة بين الطرفين تتقدمها العراضات والراجمات.
- لا يمكن معالجة ملف النزوح، ومخيمات اللجوء، وحل الدولتين، ونفض الغبار عن المبادرة العربيّة للسلام دون المرور ببيروت. بيروت كانت العنوان والمكان، إليها وصل العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز، وكان يومها وليّاً للعهد، حاملاً المبادرة، متحمساً لها، ومصرّاً على تبنيّها من قبل الملوك، والرؤساء، والأمراء العرب، وكان له ما أراد، لكن ما أراده من المبادرة لم يتحقق لغاية الآن.
وأخيراً، وليس آخراً، لا يمكن التضحية بلبنان كصفقة في مزاد التسويات الناشطة في المنطقة، لأن خلوّه مكلف. الأفضل، كفّ شرّه بصفقة، إذا كان المطلوب فعلاً أن تحقق قمة جدّة صفاء ونقاء في الأديم العربي الملبّد بغيوم داكنة!