/ غسان سعود /
تجمع التقارير الديبلوماسية على استنفار ديبلوماسيّ أميركيّ كامل بعد الاستقبال الاستثنائي للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في دمشق، وما وصفته التقارير نفسها بـ”الحرص السوريّ”، حتى في الشكل، على تثبيت تموضع دمشق في قلب محور الممانعة، خلافاً لما كان يسوقه من يتعاملون مع آمالهم كوقائع ويخلطون بين الأمنيات والمعطيات.
وإذا كان الرئيس السوري بشار الأسد قد كرس وحدة الدم والمستقبل السوري – الإيراني كحجر زاوية في عشية العودة العربية إلى سوريا، فقد أظهرت كمية المشاريع الاستثمارية الإيرانية وحجم الوفد الاقتصادي المرافق رغبة طهران في إسقاط الدعاية المتواصلة عن حاجة سوريا إلى المال الخليجي، وما يرافقها من إيحاءات بأن الدور الإيراني مرادف للحروب، وهو ما تبدي الخارجية الإيرانية حرصاً مستجداً على دحضه.
بالنتيجة، قد تكون تفاصيل التفاصيل في “زيارة الانتصار” عادية للبعض، لكنها كانت مرعبة للإسرائيلي ومفصلية للأميركي الذي كان لاعباً أساسياً ومباشراً في الحرب السورية، وخسر فيها في مواجهة الإيرانيّ كما خسر في دول أخرى، وهو ما ستكون له تداعياته اللبنانية. إذ يؤكد أحد التقارير الديبلوماسية عن استنفار في واشنطن لعرقلة الاندفاع الإيراني في تحويل الانتصارات العسكرية إلى انتصارات سياسية – اقتصادية. وبعدما اتُخذ القرار السعودي في اليمن، تعتقد الولايات المتحدة بأن موازين القوى اللبنانية لا تزال تسمح لها بالمناورة والحؤول دون قيام رئيسي، بعد فترة، بزيارة لبيروت للاحتفال بانتصار إيراني ناجز هنا أيضاً، مع سلة مشاريع واستثمارات اقتصادية. ويلفت أحد التقارير الديبلوماسيّة إلى تدخل أميركي حاسم مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الأيام القليلة الماضية، تزامناً مع تغيير واضح في مسار المبادرة القطرية، في ما يبدو وكأن هناك قراراً أميركياً بإعادة دول لقاء باريس الخماسي (الولايات المتحدة، فرنسا، السعودية، مصر، وقطر) إلى المربع اللبنانيّ الأول. وفيما “تلعب” معنويات الداعمين لرئيس تيار المردة سليمان فرنجية صعوداً وهبوطاً، حفلت الأيام القليلة الماضية بما يمكن وصفه “تصفير العدادات” بالنسبة لغالبية القوى السياسية المعنية بانتخاب الرئيس:
– أولاً، كان الرئيس نبيه بري ينتظر ترجمة جنبلاطية لما يوصف بعدم وجود فيتو سعودي على فرنجية، فأتت مطابقة تماماً لترجمة بري نفسه: لا تغيّر جوهرياً في الموقف السعودي، بل تبديل شكليّ لا يغير في موازين القوى الداخلية التي تحول دون تأمينه 65 صوتاً في الجلسة الأولى والنصاب في الجلسة الثانية.
– ثانياً، أُبلغ رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع رسمياً، عبر القنوات الأمنية والديبلوماسية السعودية، وجوب الالتزام بالخطوط العريضة للصفحة الجديدة التي فتحتها الرياض مع طهران ودمشق. وهو تيقّن هذا الأسبوع أنه لن يتمكن من فرض أي شروط رئاسية، وأن أفضل ما يمكن أن يعرض عليه، عاجلاً أو آجلاً، هو السلّم الذي تركه له رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل لينزل عن شجرة الشعارات إلى المساحة المشتركة حول مرشح رئاسي مع التيار والاشتراكي والكتائب ونواب “مستقلين” و”تغييريين”.
– ثالثاً، كان باسيل ينتظر تقدماً أو نضوجاً للدور القطري، المدعوم من الولايات المتحدة والسعودية ومصر، يلاقيه في منتصف الطريق عند مرشح ثالث (غير فرنجية وقائد الجيش العماد جوزيف عون)، فإذا بالقطريين يعودون ثلاثة أشهر إلى الوراء محاولين إحياء العظام وهي رميم، عبر طرح يمكن تلخيصه بالعبارة التالية: بدل انتخاب فرنجية رئيساً مع تقديم ضمانات للسعودية، يمكن انتخاب جوزيف عون رئيساً مع تقديم ضمانات قطرية – سعودية – أميركية – فرنسية – مصرية”.
النقاشات حول الصفحة السعودية الجديدة تتطرق إلى عوامل عدة تبرر عودة المملكة إلى سوريا من دون أن تغيّر الأخيرة تموضعها السياسي. لكن، ليس في النقاشات نفسها ما يبرر العودة السعودية إلى لبنان من دون تغيير في تموضع بيروت السياسي. وفي هذا السياق، تلمّح مصادر ديبلوماسية عربية إلى استعداد الرياض لتقديم الضمانات اللازمة لدمشق، ومن خلالها للأفرقاء اللبنانيين (حزب الله)، في حال القبول بقائد الجيش رئيساً للجمهورية، ما يوحي بعدم وجود استعداد نفسي سعودي للاعتراف بموازين القوى اللبنانية، والتعامل بندّية مع حزب الله، في ظل سوء تقدير لدى من يفترضون أن المصالحة السعودية – الإيرانية تعني تجاوزاً سعودياً لحسابات الربح والخسارة، واندفاعاً سعودياً نحو تدعيم أسس النفوذ الإيراني في المنطقة.
عليه، يتوقع أحد التقارير الديبلوماسية أن تبادر الولايات المتحدة، بعد تصفير العدادات، بهجوم مضاد، مع التركيز بشكل أساسيّ على الرئيس نبيه بري، في ظل التموضع الحالي لكل من باسيل وجنبلاط، سواء مباشرة عبر إيصال رسائل مباشرة إضافية بالتلويح بوضع أفراد من عائلته على قائمة العقوبات، أو عبر الفرنسيين لحثه على تحديد موعد سريع لجلسة انتخاب الرئيس، أو عبر القطريين والمصريين الذين يعتمدون مبدأ الترغيب بدل الترهيب. فيما يهدف تصاعد الحديث الفرنسيّ (بإيعاز أميركي) عن وجوب الدعوة إلى جلسة لانتخاب الرئيس إلى إظهار عجز الثنائيّ عن تأمين 65 صوتاً لفرنجية، على نحو يتيح للفرنسيين التراجع خطوتين إلى الوراء والقول إنهم فعلوا كل ما بوسعهم وينبغي بدء البحث عن مرشح آخر.
في النتيجة، حماسة السفراء (ضمناً الإيراني) للحديث عن انتخاب قريب للرئيس يفرض على اللاعبين وضع كل أوراقهم على الطاولة وبذل كل ما يستطيعون من ضغوطات. ولعل المشكلة الأميركية الرئيسية هنا، كما في الساحات الأخرى، أن الأميركيين دائماً ما يفترضون أنفسهم أنهم وحدهم في الساحة.