/ جورج علم /
لا فرنسا وحدها قادرة على انتشال “الزير” الرئاسي من “بئر” المزايدات، ولا السعوديّة وحدها قادرة على “وضع الفول في المكيول”. هناك الولايات المتحدة صاحبة التدبير والتأثير. هناك الخماسي الذي له كلمة، ورأي، ومصلحة. ولكي يصبح فاعلاً، لا بدّ من أن يصبح سداسيّاً بضم إيران إلى صفوفه، ليُبنى على الشيء مقتضاه.
ولا ينتج العزف المحلّي على الوتر الفرنسي ـ السعودي لحناً شجيّاً. شهدنا حفلة زجل بين الرئيس نبيه برّي وسمير جعجع حول موقف الرياض من سليمان فرنجيّة، علماً بأن أيّ منهما لا يملك تفويضاً، فلا بريّ في الموقع المؤتمن على أسرار المملكة، ولا جعجع بموقع المؤتمن على البوح بأسرارها.
والزجليات هذه، ولاّدة أزمات. في الأمس القريب، سهر اللبنانيون في القليلة على وقع الصواريخ المتطايرة باتجاه العدو الإسرائيلي. أما كيف، ولماذا؟ فهذه تفاصيل التي لا تستأهل التوقف عندها. وأول من أمس، سهر اللبنانيّون على زجليات النزوح السوري، وبدأت الرؤوس الحامية تسنّن الخناجر، وتلمّع السيوف، قبل أن يصل وزير الخارجيّة الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، ليصوّب البوصلة: “الرئيس أولاً، والتوافق لانتخابه”.
غاب عن الزجليات المكوّن السنّي، أين هو الآن؟ أين هو دوره؟ تغنّى صائب سلام يوماً بلبنان الواحد، لا لبنانان، وبلبنان التفهّم والتفاهم، وعندما ترجّل عن صهوة عنفوانه، وغادر، غادرمعه لبنان الواحد، ولم يبق سوى الطلل.
غادرنا لبنان الواحد… عندما غادرنا رشيد كرامي، وصائب سلام، ورفيق الحريري، والمفتي الشيخ حسن خالد، وكوكبة من الميثاقيّين الذين أثروا الصيغة، ودعّموا مداميك الكيان.
غادرنا لبنان الواحد، عندما غادرنا اتفاق الطائف.
وغادرنا إتفاق الطائف عندما إغتيل عرّابه الرئيس رفيق الحريري. وغادرنا عند اجتياح بيروت في 7 أيار 2008. وغادرنا عندما ذهب اللبنانيون إلى الدوحة في 21 أيار، ليختاروا التفاهم بديلاً عن الاتفاق. وغادرنا بعد زيارة الرئيس سعد الحريري للرئيس بشّار الأسد في دمشق، خلال كانون الأول 2009، بعدما اتهمه باغتيال والده. وغادرنا بانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهوريّة في العام 2016 بعد عام ونصف من التعطيل، ومصادرة القرار.
غادرنا إتفاق الطائف بعد التسويات التي تمّت على حساب الدستور، والقوانين النافذة، ومكّنت أمراء الطوائف من هتك المحرّمات، واستباحة المقدّسات. غادرنا عندما أرغم الرئيس سعد الحريري على الإستقالة في الرياض في الرابع من تشرين الثاني 2017، وعندما اندلعت إنتفاضة 17 تشرين الأول، 2019، والتي طالبت بالتغيير، وأرغمت الحريري على تقديم إستقالة حكومته.
بعد الطائف، تغادرنا الصيغة، والميثاق، ويكاد لبنان صائب سلام أن يتحوّل إلى لبنانَين أو أكثر، بعدما نجح بعض مَن في الخارج بالتعاون مع بعض من في الداخل بتحويله إلى منصّة، وساحة لاستيعاب أزمات إقليميّة معقدة.
يغادرنا لبنان الواحد، عندما غادرنا سعد الحريري في 24 كانون الثاني 2022، معلناً اعتزاله، وامتناعه وتياره، عن خوض الإنتخابات النيابية، مبرراً ذلك بالقول: “أنا مقتنع بأنه لا مجال لأية فرصة إيجابيّة للبنان في ظلّ النفوذ الإيراني، والتخبط الدولي، والإنقسام الوطني، والطائفي، وإنهيار الدولة”.
ويغادرنا، عندما يعلن زعيم مدرسة الإعتدال الوطني، الرئيس تمّام سلام، عزوفه عن خوض الإنتخابات النيابية، في بيان أصدره في 18 نيسان من العام الماضي: “… في خضم ما وصلت إليه الأوضاع في البلاد من تردّ وانهيار، وإفساحاً في المجال أمام تغيير جدّي من خلال إتاحة الفرصة لدم جديد، وفكر شباب نظيف يطمح إلى أهداف وطنية صافية ونقيّة، واحتراماً لمطالب الشعب الثائر والساعي إلى التغيير، والذي يستحق أن يعطي فرصة ليتابع سيرة بناء وطن بأفكار، وأساليب، وممارسات جديدة طموحة، أعلن عزوفي عن الترشح للإنتخابات النيابيّة”.
ركنان وطنيّان يستنكفان رفضاً للمعاول الهدّامة التي تنهش الصيغة، وتدمّر الأساسات الكيانيّة. القضية، قضية وطن، وقضيّة طائفة بناءة. أهل السنّة لحمة لبنان، حافظوا على عروبته، هندسوا صيغته وميثاقه، أنسنوا رسالته. بهم كانت المدينة، والعمارة، والاقتصاد. معهم اكتملت الشراكة، وحلّق طائر الفنيق عالياً بجناحيه. بعزوفهم اختل التوازن. مهض الجناح، وبدا التغيير الديموغرافي خطراً وجوديّاً يقضي على البقية الباقية من لبنان صائب سلام.
يستهلك الاستحقاق الرئاسي كمّاً لا حدّ له من الحشو الإعلامي، فيما الأزمة في مكان آخر، تزهر مع ربيع التحولات في المنطقة والعالم. هناك تجفيف للصيغة، وتجويف للنظام، واستباح للمؤسسات، وهتك للميثاق، وتدمير لأساسات العيش المشترك.
إستقر إحصاء الرئيس نجيب ميقاتي للمسيحييّن عند الرقم 19. لم يعد مهمّاً العدد. أهل السنّة في طليعة الأعداد، ولكن ماذا عن الدور، والموقع، والفعاليّة بعدما حصر الإعلام معركة الرئاسة بالثنائي الشيعي من جهة، والثلاثيّة المارونيّة من جهة أخرى؟ حتى الثلاثيّة هذه مأزومة، تلتقي على السلبيات، وتتنافر حول الإيجابيّات.
هناك مكوّن له مطامحه، ومشروعه، وتحالفاته، يريد رئيساً يحمي ظهره، وهناك مكونات متباعدة، محاصرة بفائض القوّة من جهة، وبمشاريع معلّبة واردة من الصديق الفرنسي، والحليف الأوروبي، والغيور الأميركي تنضح بسموم قاتلة تحت مسميات منها: دمج النزوح، وتوطين اللجوء، والإستسلام الكلي لشروط “دراكولا” العصر، صندوق النقد الدولي، كي يمتصّ ما يتبقى من عافية اقتصاديّة، ويستأثر بالمرافق المنتجة، ويدير شؤون البلد بصلاحيات مفوّض سام جديد.
وقياساً على الاستهداف المنظّم، لم يعد مستغرباً أن يتبنّى الفرنسي مارونياً لرئاسة الجمهوريّة من دون التنسيق المسبق مع بكركي، والكتل المارونية الوازنة، ولا مستغرباً الموقف السعودي من الجوائح التي يتعرض لها أهل السنّة في لبنان!