/ غاصب المختار /
يسود الانقسام واختلاف وجهات النظر، والشروط والشروط المضادة، القوى السياسية اللبنانية التي تتخبّط في مقاربة الاستحقاق الرئاسي، نتيجة المشهد السوريالي المعقّد في المجلس النيابي بوجود كتل متنافرة وغير منسجمة، بل ومتخاصمة إلى حد عدم التلاقي والحوار إلّا حول قضايا إجرائية بسيطة، لا قضايا وطنية وأزمات كبرى، كمثل أزمة الشغور الرئاسي والانقسام حول الصلاحيات وتعثّر الحكومات كاملة الصلاحيات أو حكومات تصريف الاعمال.
الانقسام والتخبّط وصل من بيروت إلى باريس، الساعية، عن حسن نية، إلى انقاذ لبنان، على الرغم من انشغالاتها الداخلية والغضب الشعبي العارم على “إصلاحات” الرئيس إيمانويل ماكرون. لكنها غارقة أيضاً في لعبة “استرضاء” هذا الفريق اللبناني وذاك، وهذه الدولة أو تلك. وهي لعبة من الصعب وصولها إلى نهاية إيجابية، نظراً لتضارب، بل تعارض مصالح الاطراف المحلية اللبنانية والاقليمية والدولية، والتي لم تستقر بعد على أساس متين، على الرغم من المصالحات الجارية إقليمياً، والمعرّضة للتعطيل والتخريب الأميركي والغربي.
بوادر تعثر الحراك الفرنسي ظهرت في اللقاء الخماسي الذي انعقد في باريس مطلع شهر شباط الماضي، والذي كان على مستوى “خبراء”، ولم يصل إلى نتيجة، بل مقاربات عامة وطرح وجهات نظر. لا سيما أن التقارب السعودي ـ الايراني لم يكن قد تحقق بعد. ومع ذلك استعيض عن احتمالات التوافق بتسريبات من هذه الدولة وتلك عن نظرتها للملف الرئاسي وطرح اسماء للرئاسة الاولى، ما عطّل إمكانية التوافق.
لم تيأس باريس، وواصلت مساعيها في لقاءات مع الدول المعنية والأطراف اللبنانية، نظراً لمصالحها الكبرى في لبنان ومشاريعها فيه (إعمار المرفأ واستخراج شركة توتال للغاز والنفط وسواها من مشاريع)، وهو بوابتها إلى دول المشرق، ولكنها بقيت تصطدم بالشروط والتحفظات، قبل الاتفاق السعودي ـ الإيراني وبعده، ودخلت دول أخرى عربية على الخط (قطر) لتطرح شروطاً وأسماء، ما زاد في تعقيد الامور. هذا عدا تدخل الظل الاميركي في كل شاردة وواردة وتفصيل، ما اضطر باريس إلى طرح معادلات جديدة: فرنجية للرئاسة الأولى ونواف سلام للرئاسة الثالثة وسمير عساف لحاكمية المصرف المركزي، وهي قوبلت بالتحفظات والرفض ايضاً وايضاً.
ومع تطور الظروف السياسية الإقليمية والدولية، تم في باريس طرح “الخيار الثالث” لرئاسة الجمهورية، وهو مقبول من شريحة سياسية لبنانية ومن دول إقليمية وغربية، لكنه مرفوض من شرائح أخرى. فبقيت باريس تدور في الدوامة. ولعل الأزمة الجوهرية التي واجهتها باريس في كل مبادراتها هي عدم قدرة، أو حتى رغبة “طاقم الحكم” اللبناني في كل الطروحات بتلبية المطلب الابرز وهو إجراء الإصلاحات البنيوية في النظام السياسي وفي الاقتصاد.
وفي آخر مظاهر الحراك الفرنسي، الاستعانة “بالصديق” اللبناني نفسه، على أمل تحقيق خرقٍ ما، فتمت دعوة سليمان فرنجية وسامي الجميل إلى باريس. الأول للحصول منه ضمانات تُطمئِن السعودي، فقدمها مرتاحاً وعبّر عنها في باريس ومن بكركي. والثاني لمحاولة إقناعه كممثل للمعارضة المسيحية بالصفقة التي تحاول فرنسا تركيبها. لكن المحاولة فشلت إزاء موقف المعارضة المتصلّب برفض فرنجية، وهو الموقف المدعوم خارجياً. فبدأت باريس مؤخراً البحث عن مرشح آخر للرئاسة وسطي ومقبول، لا يُشكّل تحدياً واستفزازاً لفريق، ويعطي الضمانات والتطمينات لفرقاء آخرين، بعيداً عن المقايضة بفرض رئيسين للجمهورية وللحكومة سلفاً على المسيحيين. لكن هل هذه المهمة قابلة للتحقيق؟
الأسابيع القليلة المقبلة ستوضح نتائج هذا المسعى الجديد.