اللحاف الإسرائيلي.. والأرجل المطوية!

الدكتور حسن أحمد حسن (*)

تختزن الأمثال الشعبية الكثير من الحكم والمواعظ المستندة إلى كمٍّ متراكمٍ من التجارب لدى الشعوب، وتتحول خلاصات ذلك كله إلى أقول مأثورة وأمثال شعبية تتناقلها الأجيال للاستفادة من الخبرات والدروس السابقة. وعندما يتم ركوب الرؤوس الحامية، ولا يؤخذ بمضامين تلك الحكم والأمثال على أمل إمكانية إخفاء الحقيقية التي لا تناسب أولئك، فالنتيجة الحتمية التي تنتظرهم هي افتضاح غبائهم وتبلور الحقائق جلية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.

ويبدو أن نتنياهو وأركان حكومته العنصرية المتطرفة لم يرق لهم المثل الذي يقول: “على قدّ بساطك مدّ رجليك” فأرادوا أن “يتمدمدوا” إرضاء لعقد النقص والعجز التي أخذت تتبلور وتتضاعف أمام أعينهم، وهم عاجزون عن وقف مسلسل الإخفاقات المتتالية، وحتى التخفيف من وتيرة تسارع ظهور تلك العقد وهي تطفو على سطح ماء مكشوف القعر وفي مساحة جغرافية لا يحتاج فيها المتبع لتلسكوبات وعدسات مقربة ليرى اللوحة كاملة على حقيقتها. وإذا كان هناك من لا يتقن تمييز الأشكال التي يراها، أو لا يمتلك مهارة قراءة العناوين العريضة، فأصحاب الحكمة والقول الفصل يتكفلون بشرح أي التباس أو غموض، وتسمية الأشياء بأسمائها كما هي على حقيقتها. وقد ظهر هذا الأمر بجلاء في الخطاب الذي ألقاه سماحة الأمين لعام لحزب الله السيد حسن نصر لله بمناسبة يوم القدس العالمي، عندما تحدث عن انخفاض سقف الأهداف الإستراتيجية لدى الكيان الإسرائيلي إلى درجة رأت فيها حكومة نتنياهو أنها حققت إنجازاً عظيماً بتحييد حزب الله عن المعركة في جنوب لبنان، عندما قامت قوات الاحتلال بقصف مزارع موز ومناطق خالية في الجنوب، في حين ادعى نتنياهو أنهم قصفوا بنية تحتية لحزب لله وحركة حماس.

وبغض النظر عن ثبوت كذب نتنياهو، إلا أن الأهم الذي يجب التوقف عند مدلولاته وما يتضمنه من أبعاد استراتيجية، يتلخص في خلفيات الرواية الإسرائيلية عن الهدف المهم الذي تم تحقيقه، وهذا ما أشار إليه سماحة السيد نصر الله بقوله: “..أن تخرج إسرائيل بعد قصف الصواريخ من جنوب لبنان تقول: لقد حققنا هدفاً مهماً ‏وهو أننا استطعنا أن نُحيّد حزب الله عن المعركة في جنوب لبنان. يعني عندما لم نرد على القصف الذي ‏نفذوه، اعتبروه إنجازاً. أنه دعونا نحيد لبنان ودعونا نُحيد المقاومة في لبنان، وهم أكلوا ‘قتلة الجماعة’، هذا يجب اليوم أن يُقرأ ‏بالاستراتيجيات..”.

عندما يقول مثل هذا الكلام سماحة السيد، الذي أرغم جنرالات الكيان الصهيوني على الانخفاض بالأهداف التي يحددونها إلى هذا المستوى قبل التفكير بالإقدام على أية خطوة، فإنه يصبح لزاماً وواجباً على جميع الخبراء والمختصين والنخب الفكرية والثقافية والإعلامية والمجتمعية المقاومة، أن تسارع لتقديم قراءة ذلك بالاستراتيجيا، والتزاماً بذلك أرى أنه من المفيد التوقف عند عدد من الأفكار والنقاط المهمة والمتعلقة بالموضوع ذاته، ومنها:

ـ التزام الكيان الإسرائيلي مكرهاً بقواعد الاشتباك التي يحددها محور المقاومة بعامة، والمقاومة في حزب الله بخاصة، وهذا ليس وليد اليوم أو الأمس القريب، بل ظاهرة متبلورة بوضوح منذ حرب عام 2006 م. عندما هدّد سماحة السيد بأن قصف الضاحية الجنوبية يقابله قصف تل أبيب، وثبت أن صواريخ المقاومة تصل إلى ما بعد بعد حيفا.

ـ الانتقال من الساحة اللبنانية إلى الساحة السورية، وانخفاض سقف الأهداف الإسرائيلية في مواجهة حزب لله بشكل حاد، وهذا ما بدا واضحاً بعد استشهاد عنصر من حزب لله في محيط دمشق في آب 2020 م. بغارة إسرائيلية، وجاء موقف الحزب واضحاً جلياً على لسان سماحة الأمين العام في كلمة له بمناسبة ذكرى عاشوراء في 30/8/2020 م. عندما أكد حتمية الرد، وأن الهدف من الرد على الاحتلال الإسرائيلي “ليس إعلامياً، بل تثبيت معادلة بأن الرد على قتل أحد مجاهدينا بقتل جندي إسرائيلي في المقابل”. ومنذ لحظة الاعلان عن الرد والاحتلال “يعمد إلى وضع أهداف مموهة داخل آلياته لاستدراجنا والتخلص من رد المقاومة”. وأضاف سماحة السيد في الخطاب المذكور أنّ جيش الاحتلال “الذي يعدّ أقوى جيوش المنطقة، يقف على إجر ونص، وعطّل تدريباته بانتظار رد المقاومة”، مبرزاً أنّه “بمجرد إعلاننا استشهاد أحد عناصرنا في غارة إسرائيليّة في سوريا، وقف الجيش الإسرائيلي على إجر ونص”. وكي لا تتشوش الرؤية لدى المتابع العادي بتأخر الإعلان عن مقتل جندي إسرائيلي، أوضح سماحة السيد أنّ الاحتلال الإسرائيلي “يتمنى أن يكون رد المقاومة بأسرع وقت وجنوده يختبئون مثل الفئران”، موضحاً أنّه “لو نفذنا رداً من أجل الاستعراض الإعلامي لأضعنا معادلة الردع مع جيش الاحتلال ولسنا مستعجلين للرد”.

ـ فرض ضبط إيقاع المواجهة على جيش الاحتلال وفق المعايير التي يحددها حزب الله شهد مرحلة جديدة، وسقفاً أعلى للمقاومة مقابل انخفاض السقف الإسرائيلي، فكانت الخطوة التالية بسحب البساط من تحت أقدام الإسرائيلي في مناطق تخضع بالمطلق لسيطرته. وجاءت الرسالة ثنائية المضمون عندما تم التهديد بمنع العدو من الاستثمار في حقل كاريش في البحر، ما لم يتم بالتزامن السماح للبنان باستثمار ثرواته النفطية والغازية. وقد وصلت الرسالة بوضوح عندما حلقت الطائرات المسيرة فوق منصة الاستخراج في كاريش وتم بث الصور. أي أن الرسالة ثنائية الشكل والمضمون: بحرية ـ جوية في آنٍ معاً. ومن جديد طوى الإسرائيلي أرجله مقداراً إضافياً، وتم تحقيق الهدف بما يحفظ على مصالح الدولة اللبنانية كاملة.

ـ أمام إذعان العدو لقواعد الاشتباك الجديدة التي تفرضها المقاومة في كل مرة، جاء تركيز الجهود المعادية على الداخل الفلسطيني المحتل، حيث بلغت الوحشية الإسرائيلية في بداية أيار 2021 م. حداً لا يمكن السكوت عنه في باب العمود والشيخ جراح في القدس، إضافة إلى اقتحام الأقصى، واعتقال المعتكفين فيه واستهدافهم بالرصاص المعدني، وإصابة المئات من المصلين. وسرعان ما أتى الرد من “الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية”، التي حددت لسلطات الاحتلال الإسرائيلية مهلة زمنية لسحب جنودها من المسجد الأقصى وحي “الشيخ جراح” بمدينة القدس المحتلة، والإفراج عن المعتقلين. وعقب انتهاء المهلة، أطلقت الصواريخ باتجاه الداخل المحتل، بما في ذلك سبعة صواريخ باتجاه القدس، برسائل وأهداف واضحة. وهكذا احتدمت المواجهة وبلغت أوجها بإعلان حكومة نتنياهو شن عملية واسعة ضد غزة أسمتها “حارس الأسوار”، فجاء الرد المقاوم بعملية “سيف القدس”. واتضح من النتيجة التي تمخضت عنها المواجهة أن “سيف القدس” بتر بعض أصابع “حارس الأسوار”.

ـ أمام هذا الواقع المفروض بقوة المقاومة، كان التركيز على محاولة التعويض بزيادة وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية على الداخل السوري ضمن ما أسموه منذ عام 2018م. “المعركة بين الحروب” والتي ثبت لكل متابع منصف الفشل في تحقيق أي من الأهداف المعلن عنها، حيث كان التبجح بذريعة قطع شريان التواصل بين قلب محور المقاومة “طهران”، ورأس حربته “الضاحية الجنوبية”، ومنع وصول الأسلحة إلى حزب الله. وكل المؤشرات التي تعترف بها تل أبيب تؤكد أن ترسانة الأسلحة النوعية لدى حزب لله زادت ولم تتقلص. كما أن الحديث عن تقليص فاعلية الدور الإيراني في سورية تبين أنه أقرب ما يكون إلى حلم إبليس بالجنة. وقد أوضح سماحة السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير بمناسبة يوم القدس العالمي أن الوضع القائم الذي تكتفي فيه سورية بالتصدي للاعتداءات الإسرائيلية لن يستمر طويلاً، فقد يتطور الموقف أو يتبدل في أي لحظة من اللحظات بناءً على تطور الأوضاع في المنطقة وفق التطورات الدولية، وبناءً على تطورات محور المقاومة والوضع داخل الكيان. وبالتالي يُخطئ العدو الإسرائيلي عندما يبني ويطمئن إلى أن حساباته ثابتة، فيستمر بالقصف في سورية وهي مشغولة بحرب أخرى، وقد يظهر خطأ هكذا حسابات في أي وقت من الأوقات. وأضاف سماحته: “محور المقاومة وقياداته على تفاهم وعلى تواصل، ويدرسون الخيارات بشكل جيد، ولديهم من الشجاعة والحكمة للتعاطي مع الأحداث بما يناسب كل مرحلة من المراحل إن شاء الله”.

ـ على الرغم من أهمية ما ذكر آنفاً، إلا أنه يبدو أقل مما تريده المقاومة بكثير، فالعربدة المنفلتة من كل عقال في الداخل الفلسطيني المحتل تمنح حكام تل أبيب بعض الشعور بالفوقية، ومن المهم سحب البساط من تحت أرجل حكام تل أبيب. وما العمليات النوعية التي شهدتها أراضي 48، وتحول المقاومة فيها إلى ظاهرة قائمة تترك بصمتها الذاتية الواضحة في كل مواجهة، إلا البرهان الدامغ على استمرار سحب اللحاف الذي تحاول حكومة نتنياهو أن تغطي به سوءة كيانها المصطنع، وتخفي ما أمكن من الثقوب الكبيرة التي أصابت ما يسمى “الردع الإسرائيلي” الذي تضرر كثيراً باعتراف عتاة المسؤولين الصهاينة أنفسهم، بمن في ذلك نتنياهو. فدخول أهلنا عرب 48 في المواجهة المفتوحة مباشرة، وبعمليات فائقة المردودية، يعني أن الاشتباك مع العدو أصبح من المسافة صفر، وهذا يعني الكثير في الحسابات العسكرية والأمنية.

ـ الانتقال من “وحدة الساحات” إلى “ترابط الجبهات” تطور دراماتيكي في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني، وهذا متبدل جوهري يترك آثاره المباشرة على شتى الصعد والمستويات التكتيكية والعملياتية والاستراتيجية، فانطلاق الصواريخ من جنوب لبنان أو من الداخل السوري باتجاه العمق المحتل من قبل “إسرائيل”، يعني الكثير، ويضع خطوطاً واضحة تحت العديد من الأفكار المتعلقة بالموضوع ومنها:

1ـ العبرة ليست في عدد الصواريخ التي تم إطلاقها، ولا في نوعيتها، ولا حتى في طاقتها التدميرية وحجم ما أحدثته من أضرار وخسائر، بل في كسر غطرسة حكام تل أبيب وإقرارهم بتآكل الردع الإسرائيلي. حتى أن نتنياهو نفسه اعترف بتضرر الردع، وادعى أنه سيحتاج وقتاً لترميمه، ولكن معطيات الواقع تقول: هيهات له أن يستطيع ذلك هيهات.

2 ـ التتالي الزمني بإطلاق الصواريخ: أولاً من غزة، ثم من الجنوب اللبناني، وبعد ذلك من الداخل السوري، يؤكد المستوى العالي من التنسيق بين فصائل المقاومة على امتداد الجغرافيا المذكورة. أي أنه تم الأخذ بالحسبان احتمال إقدام نتنياهو على حماقة ما تهرباً من تحمله شخصياً المسؤولية المباشرة عن انهيار الردع الإسرائيلي، وهذا يعني الاستعداد المسبق لأسوأ سيناريو محتمل بما في ذلك إمكانية اندلاع حرب كبرى.

3 ـ انخفاض مستوى الرد الإسرائيلي، وجنوحه إلى أن يكون شكلياً وإعلامياً أكثر مما هو رد عسكري حقيقي، يعني الخوف والرعب من خروج الأمور عن السيطرة، والحرص على إبقائها في المستوى الذي لا يتسبب باندلاع حرب تشترك فيها جميع أطراف محور المقاومة. وهذا يعني سقوط سيناريو إمكانية الاستفراد بأي طرف أو ساحة لأي من أطراف محور المقاومة، لا في فلسطين، ولا في لبنان، ولا في سورية، ولا في أي مكان آخر. وهذا بحد ذاته يفقد حكام تل أبيب أهم مكونات الردع الذي كان قائماً ويتباهون به، ويثبت معادلة جديدة عنوانها: “ترابط الجبهات والنتيجة الحتمية بهزيمة تل أبيب”.

4 ـ من الظلم بمكان النظر بشكل مستقل إلى الارتجاج العسكري الذي ولّده إطلاق الصواريخ من ثلاث جبهات، وارتداد ذلك على الداخل الإسرائيلي، لأنه جاء خاتمة لمجموعة من الصفعات المؤلمة للمدرسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية: مجموعة عمليات نوعية ناجحة للمقاومة الفلسطينية داخل الضفة الغربية ـ دخول عرب 48 في بؤرة الاشتباك، وتحول الشباب الفلسطيني في العديد من المدن إلى عامل قلق ورعب للإسرائيلي، مستوطناً كان أم عسكرياً ـ عملية مجدو… إلخ.

5 ـ تزامن الرد الصاروخي للمقاومة مع استبسال المقدسيين والمرابطين في الأقصى في الدفاع عن المقدسات، رغم الوحشية المفرطة التي تتعامل به شرطة الاحتلال وجنوده مع المعتكفين في الأقصى. وعلى الضفة المقابلة، ازدياد الهلع في صفوف المستوطنين، والطلب منهم البقاء قريباً من الأماكن المحصنة.

6 ـ لا يمكن فصل ما جرى عن الاحتقان الداخلي في كيان الاحتلال، وحالة التشظي والانقسام التي اجتاحت التجمع الاستيطاني، عمودياً وأفقيا، وشملت مختلف الشرائح، بدءاً بالمستوطنين في الغلاف، وانتهاء بالطبقة الحاكمة التي سجلت سقفا جديداً غير مسبوق من كيل الاتهامات وإلقاء المسؤولية عن هذا الوضع المزري، كل طرف على الآخر. و مثل هذا الوضع يشكل البيئة الاستراتيجية الأنسب لانتشار القلق والتوتر والاضطراب والتردد، وغير ذلك من عوامل نفسية ومعنوية تؤثر كثيراً على مفاصل صنع القرار الاستراتيجي في مختلف مراحل دورة اتخاذه، فضلاً عن قلة الخيارات الممكنة المطروحة للدراسة والتقييم.

7 ـ واضح لمن يتابع الشأن الداخلي الإسرائيلي أن نتنياهو وجد نفسه بين نارين للمتطرفين الصهاينة، فهو إما أن يجنح لإرضائهم، وهذا يعني التقرب بسرعة من تفجير الاحتقان ضد الفلسطينيين، وهو يقود بالحتمية إلى اشتعال المنطقة، واشتعال المنطقة يعني زيادة احتمال زوال الكيان من الوجود، وهو ما عبر عنه المسؤولون الصهاينة على مختلف مستوياتهم. والخيار الآخر أمام نتنياهو هو إغضاب أولئك الأكثر تطرفاً وعنصرية، وهذا يعني الاقتراب أكثر من الإفناء الذاتي داخلياً، وتحول شوارع تل أبيب وغيرها إلى ساحات حرب داخلية بين المستوطنين أنفسهم، وهو بالتالي يقود أيضاً إلى الوصول بسرعة إلى ما يخشونه من زيادة التشظي والتقدم نحو الهاوية وزوال ذاك الكيان. وكلا الخيارين يقود إلى نتيجة واحدة تشكل خطراً وجودياً كبيراً يسعى نتنياهو وغيره من المسؤولين الصهاينة وداعميهم إلى تجنب الوقوع فيه.

8 ـ لا يمكن الحديث عن ارتجاجات بنيوية يشهدها واقع الصراع مع “إسرائيل”، بمعزل عما تشهده المنطقة والعالم من تبدلات وانزياحات وإعادة اصطفافات وتموضع على شتى الصعد العسكرية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية: الاشتباك الروسي الأطلسي على الجغرافيا الأوكرانية ـ أزمة الطاقة التي وجدت أوروبا نفسها في خضمها جراء انسياقها أوتوماتيكيا وراء أمريكا ـ الاختراق الصيني غير المتوقع للمنطقة التي تدخل ضمن مجال النفوذ الأمريكي التقليدي، والانتقال من حصر الفاعلية والمنافسة الصينية في الجانب الاقتصادي لتتخذ أبعاداً سياسية وأمنية بعد الاتفاق السعودي ـ الإيراني برعاية صينية ـ زيادة انفتاح الدول العربية على سورية، وبدء عودة العلاقات الثنائية وفتح السفارات، والحديث عن عودتها لشغل مقعدها في جامعة الدول العربية، مع أن سورية كانت وتبقى واسطة عقد المقاومة ـ تعثر مشروع التطبيع بحلتيه التقليدية والإبراهيمية مع الكيان الإسرائيلي ـ غياب أي حديث أو جهد لتشكيل “ناتو” عربي أو إسلامي يصطف مع الكيان الإسرائيلي لمحاربة إيران ـ توتر العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، وانشغال واشنطن بأولويتين أساسيتين: مواجهة روسيا عسكرياً، ومحاولة إغراقها في المستنقع الأوكراني، ولو أدى الأمر إلى استنزاف أوروبا بكليتها، ومواجهة الصين اقتصادياً، ومحاولة تفادي التخلي عن التعامل بالدولار بأية طريقة كانت. وأمام هاتين الأولويتين تتراجع إلى مواقع هامشية بقية القضايا على سلم اهتمامات السياسة الأمريكية.

9 ـ كثرت التحليلات والدراسات التي تحذر من احتمال جنوح نتنياهو باتجاه تصدير الأزمة الداخلية التي تعصف بالكيان، ومن شأن هكذا قرار أن ينهي التفرقة والانقسام في الشارع الإسرائيلي والتوحد لمواجهة الخطر الخارجي مع أي تصعيد محتمل. وتم الاستشهاد بازدياد معدل الاعتداءات على سورية في الفترة الأخيرة التي جاءت متزامنة مع التصعيد الإسرائيلي في الأقصى والقدس، وهنا يمكن التوقف عند عدة نقاط، ومنها:

أ ـ تل أبيب لا تنتظر ذريعة أو سبب لتوسيع دائرة العدوان، وهي لا تحتاج أي سبب للانتقال من وضع الصراع مضبوط الإيقاع إلى وضع الحرب الشاملة لو أنها على يقين بالقدرة على تحمل مسؤولية اتخاذ هكذا خطوة. وبالتالي لا يستحسن البناء على التهويل من أن الرد الصاروخي الثلاثي على الداخل الإسرائيلي أعطى نتنياهو ما كان يحتاجه لينتقل باتجاه إشعال المنطقة، بل العكس هو الصحيح، فهذا الرد المنسق والمتكامل هو ما لجم العدوانية الإسرائيلية، وأبقى الرد في أدنى الحدود.

ب ـ أطراف محور المقاومة أيضاً ليست بحاجة إلى رفع سقف العدوانية الإسرائيلية لتتخذه سبباً للانتقال إلى الحرب الكبرى، فتحرير الأرض المحتلة واجب وطني وشرعي وأخلاقي وإنساني، ولو أن سير الأحداث مضمون التوجه وفق بوصلة محور المقاومة، لكنا نعيش الحرب الكبرى بكل تداعياتها.

ج ـ القراءة الموضوعية للوحة المتشكلة تفيد بأن الحرب القادمة لن تكون نزهة لجميع الأطراف، وبالتالي هناك ضريبة كبيرة جداً على الجميع الاستعداد لدفعها تكلفة. وبالحسابات العلمية والعقلية البعيدة عن العواطف يمكن القول: مهما ارتفعت ضريبة الحرب القادمة، تستطيع أطراف محور المقاومة تحملها وتبقى موجودة بكياناتها القائمة.

د ـ الحسابات المعتمدة نفسها تؤكد أنه مهما تدنت ضريبة الحرب القادمة، فالكيان الإسرائيلي لا يستطيع تحملها، ولا ضامن لاستمراره بالوجود، وهذا يعني أن كل ما يتعلق بالحديث عن إمكانية إقدام تل أبيب على توسيع دائرة النار هو أقرب إلى التهويل منه إلى السيناريو المحتمل أو الخيار الفعلي المتاح، والذي يمكن أن يعتمد كقرار استراتيجي، ولا أدل على ذلك من تراجع نتنياهو وتدني مستوى الرد على إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان وسورية.

هـ ـ بالعودة إلى ما ذكر سابقاً بخصوص زيادة الاعتداءات الإسرائيلية على الداخل السوري كمقدمة لتصدير الأزمة الداخلية التي تعصف بالكيان، قد يكون من المفيد النظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، فمن غير المستبعد أن تكون بعض الرسائل موجهة إلى كل من روسيا وأمريكا في آن معاً للاهتمام أكثر بهواجس حكام تل أبيب، وبخاصة بعد أن اتضح أن البيت الأبيض لديه أولويات أخرى تتقدم على الكيان الإسرائيلي، في حين فضحت الوثائق المسربة من وزارة الدفاع الأمريكية تورط تل أبيب بدعم أوكرانيا بأشكال متعددة ومختلفة، وهذا قد يثير غضب موسكو الحريصة على تركيز اهتمامها الأول بما يجري في أوكرانيا، وكذلك الحال بالنسبة لأمريكا. وبالتالي قد يكون تكرار الاعتداء الإسرائيلي على سورية وتصاعد وتيرته في الفترة الأخيرة رسالة موجهة لأمريكا وروسيا في آن معاً، وتتضمن القدرة الإسرائيلية على خلط الأوراق في كامل المنطقة وعلى واشنطن وموسكو أخذ ذلك بالحسبان، والابتعاد عن إغضاب تل أبيب في هذه الفترة بالذات، ولا يستبعد أن تكون تل أبيب حصلت على بعض المكاسب أو الوعود من هذا الطرف أو ذك باستخدامها ورقة التصعيد الممكن، والتلويح بورقة تصدير الأزمة الداخلية الإسرائيلية إلى خارج الحدود.

10 ـ تدني مستوى الرد الإسرائيلي على إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان وسورية يؤكد أن حكومة نتنياهو في حالة غير مريحة داخلياً وخارجياً، ويشير إلى أن الجانب الاستخباراتي فيها على قناعة بأن التنسيق بين أطراف محور المقاومة بلغ مستوى متقدماً يوحي بالاستعداد المطمئن لأية تداعيات محتملة، فالجبهات فعلاً غدت متواصلة ومتصلة، والرغبة متوفرة في قيام تل أبيب بردة فعل غير محسوبة بدقة، الأمر الذي قد يقرب موعد الحرب الكبرى، ونظراً لافتقاد القدرة على تحمل ضريبة هكذا حرب مهما كانت محدودة، وما قد تخلفه من خسائر بشرياً وعسكرياً، فهي ستؤدي بالضرورة إلى شلل الكيان في مرحلة تنشغل فيها جميع القوى الفاعلة بأولويات لا تتفق والأجندة الإسرائيلية، وهذا يفسر ما نقل عن رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية: “إنهم بصدد مواجهة صيف ساخن، ويجب أن تكون المواجهة بعقول باردة”.

خلاصة:

مفرزات الجولة الأخيرة من الصراع والمواجهة المفتوحة مع تل أبيب وداعميها، برهنت أن البساط يسحب من تحت أرجل الكيان الصهيوني ورعاته والدائرين في فلكه، بالتزامن مع انكماش اللحاف الذي يغطي عيوب أولئك ومواطن ضعفهم المتزايدة كماً ونوعية. وكلما ضاقت الجغرافيا التي يعربد فيها حكام تل أبيب بلا حسيب و رقيب، كلما اضطروا لجمع أرجلهم إلى بعضها أكثر فأكثر لتفادي التحديات والأخطار والتهديدات الخارجة عن سيطرتهم، والمتولدة جراء عدوانيتهم المنفلتة من كل عقال.

ولعل الحقيقة الواضحة اليوم أمام عين المتابعين متناقضة مع منطلقات عمل أنصار القوة لأنها تقول: كلما زادت عدوانية “إسرائيل” وعنصرية حكوماتها، كلما تقلص نفوذها وزادت الأخطار الوجودية التي تواجهها، وليس العكس. وإذا بقيت حركة سحب البساط من تحت أرجل الكيان بهذه الوتيرة، فسرعان ما سيجد ذاته مرغماً على طوي الأرجل، لأن اللحاف متناسب طرداً مع طول البساط الذي يتقلص بتسارعات تفوق القدرة على التعامل مع تداعياتها النوعية والمتنوعة، وقد يصل الأمر إلى إلصاق الأرجل بالصدر وبقاء جزء مكشوف بلا غطاء، فاللحاف بحاجة إلى بعض مساحة جانبية لضمان توفير الغطاء اللازم. وهذا الكلام لا يجوز أن يكون حافزاً للتراخي أو “الاطمئنان الخادع”، لأن ذلك من أهم الأخطاء الاستراتيجية التي قد تقع بها بعض القوى التي تحرز انتصارات ميدانية. وهذا يعني أهمية الابتعاد عن قلة الإحساس بالمسؤولية، وتعليل النفس بأن عدونا ضعيف ونهايته محتومة. فمهما بلغت الخلافات الأمريكية ـ الإسرائيلية، تبقى واشنطن وبقية عواصم الغرب الأطلسي، حريصة كل الحرص على دعم الباطل الصهيوني، ونصرته على حساب الحقوق المشروعة لجميع شعوب المنطقة ودولها. وما تمتلكه “إسرائيل” من أدوات قتل وإبادة وسلاح تدمير شامل يبقيها في درجة عالية من الخطورة التي لا يجوز السهو عنها أو إغفالها لحظة واحدة. وفي الوقت نفسه العمل على تعزيز الجبهات والساحات أكثر فأكثر، وتشجيع كل من يمكن التأثير به للتفكير جدياً بالخروج من تحت العباءة الأمريكية ولو بشكل تدريجي، لأن من شأن هذا أن يدفع واشنطن للخروج أسرع من المنطقة، وهذا يعني تقليل الكوارث والفتن المرتبطة باستمرارية الوجود الأطلسي تحت أية ذريعة كانت، فشعوب المنطقة ودولها هي الأقدر على تسوية الأوضاع والحفاظ على مكوناتها ومقدراتها، وهندسة معالم الحاضر والمستقبل بما ينسجم والمصالح الوطنية العليا لدولها بعيداً عن أية تدخلات خارجية، والأفق مليء بالمؤشرات والمبشرات التي تميل الكفة بموجبها لصالح محور المقاومة ومن يدعمه.

وإذا كانت واشنطن مصممة على الاحتكام إلى لغة إرسال البوارج وحاملات الطائرات لتخويف أبناء المنطقة، فقد مضى زمن التخويف، والعالم اليوم أحوج ما يكون إلى بوارج الدبلوماسية، وليس إلى دبلوماسية البوارج.

 

(*) خبير استراتيجي وعسكري.