/ جورج علم /
كلّ يوم يمرّ من دون رئيس، يسقط حجر من الميثاق الوطني، وينهار مدماك من الكيان، وتدخل مفردات جديدة على الزجل السياسي من نوع: الفدرلة، واللامركزيات الموسّعة، و”لنا لبناننا، ولكم لبنانكم”، والخيار ما بين الحياد الإيجابي والإنخراط بالمحور، وما بين لبنان الرسالة، ولبنان الشفار المذهّبة… زجل بين مكونات غاضبة، منفعلة، متباعدة، على مساحة وطن مشلّع، متروك عريانا عند حافة التطورات الكبرى في المنطقة والعالم، ينتظر من يمرّ به، ليأخذه ـ ربما ـ إلى حيث ما لا يريد!
ما يجري، يفتح الباب على تساؤلات: هل المسؤول مسؤول، ومسؤول عن ماذا؟ وهل الدولة فعلا دولة.. ودولة لمن، وعلى من؟ وهل المؤسسات مؤسسات، أم حارات “كل من إيدو إلو”؟ وهل المواطن مدرك فعلاً لمواطنيته، ضنين بكرامته، أم مجرد رقم في بورصة التجاذبات الفئويّة؟
قبل فترة، إحتفل اللبنانيّون، أو بعضهم، بمئوية الكيان، والصيغة، وسط مناخ اجتماعي مضطرب، وفي ظلّ دولة فاشلة، ونظام ولاّد أزمات، ومكونات مأزومة، وكان الإحتفال مجرّد مهرجان رثاء للصيغة، وتأبين لوطن صدقت فيه نبوءة الرئيس آميل إده: “نحن لسنا شعباً واحداً.. نحن مجموعة طوائف.. وكل طائفة لديها الدولة المرشدة.. منّا من يرى لبنان موطن أرز الرب.. منّا من يراه قبباً ومآذن.. فلنترك الفرنسييّن عندنا يعلّموننا كيف نكون شعباً يستطيع بناء دولة.. وإلاّ نحن ذاهبون للإقتتال كل عشرين سنة.. فنصنع من لبنان ميداناً لحروب الغير.. أنا قلت كلمتي.. وأتمنى أن أكون مخطئاً”.
مرّ بنا 13 نيسان 1975، ولم نتعلم. مرّ بنا الطائف، ولم نتعلم. دخل الجيش السوري، وخرج، ولم نتعلّم. ذهبت جماعاتنا إلى الدوحة في أيار 2008 ولم تتعلم. ينتظرون الآن دوحة ثانية، بعد زيارة الوزير القطريّ محمد عبد العزيز الخليفي، أو لقاء خماسيّاً بالتنسيق مع إيران يأتي بالأعاجيب!
أطلعت الدوحة عواصم الدول المهتمّة على نتائج لقاءات الخليفي في بيروت. والنتيجة أن الوضع معقد. ولبنان أمام خيارين: تفتيت، وكانتونات طائفيّة، أو وصاية خارجيّة مقنّعة يمارسها صندوق النقد الدولي، وفق مضبطة من الشروط، والإلتزمات. أو تمارسها الدول المعنية صاحبة المصالح، بحيث تمسك بالوطن من عنقه وفقاً لنصوص القرارات الدوليّة ذات الصلة، وبنود وثيقة الطائف.
مشكلة المكونات أنها انكشفت، تعرّت، فضحت نفسها. زعماؤها تحت شبهات كثيرة، ملفاتهم مفتوحة في الخارج، وفضائحهم مكشوفة، وارتكاباتهم مكّنت أي موفد يأتي من أن يتعاطى معهم بفوقيّة، ومضابط إتهام. لم يدخلوا بعد محكمة التاريخ، والتاريخ لا يرحم. أيجوز بعد مرور مئة عام على ولادة “لبنان الكبير”، وبعد ثمانين عاماً على الإستقلال، أنه لم تبن الدولة القويّة، القادرة، العادلة، المستقرّة والمنفتحة؟ أيجوز بعد مئة عام أن يستجير زعماء لبنان بالأجنبي، ينتظرون “دوحة”، أو “لقاء خماسي”، أو “سلطان باشا جديد” كي يبادروا طوعاً لتعليماته، وهم لا زالوا يتبارزون في زجليّاتهم، وفي عزّ واقع الحال المأساوي، بالسيادة، والنزاهة، والشفافيّة، والعفّة الوطنيّة؟!
لم تعد المسألة مجرّد إستحقاق دستوري، وانتخاب رئيس، وتشكيل حكومة، وعفا الله عمّا مضى. إنها أعمق ممّا يتصوّره البعض، وأكثر تجذّراً. كلّ القرارات الدوليّة، والعربيّة. كلّ البيانات الصادرة عن المجموعة الدوليّة لدعم لبنان، عن دول مجلس التعاون الخليجي، عن المملكة العربيّة السعودية، عن الكويت ومبادرتها… كلّها تؤكد على تطبيق الطائف، وقرارات مجلس الأمن الدولي، وحصر السلاح بالمؤسسات الأمنيّة الشرعيّة، وتغليب منطق دولة القانون والدستور والمؤسسات، على منطق الميليشيات. إنها خريطة طريق لا بدّ منها لجمع أشلاء وطن مفكك، ووضع حدّ لتفوّق مصطنع من قبل جماعة على الجماعات الأخرى، وإصرارها على فرض واقع سياسيّ، وأمنيّ، وثقافيّ، ومحاولات دؤوبة لاستتباعه بسياسات المحاور الناشطة في المنطقة.
لم تعد الأزمة سياسيّة، إنها وطنيّة بإمتياز تتصل بفلسفة الكيان، والنظام، وبالمكونات المتحاربة، النهمة، التي تنظر إلى الشأن العام من زواية مصالحها الفئوية.
يصف الرئيس نبيه برّي من ينادون بالفيدراليّة بـ”الأصوات النشاز”. قد يكون على حق من المنظار الوطني، لكنه الأعلم، بفضل خبرته البرلمانية المديدة، بأن الوطن قد قام على توازنات دقيقة يعرفها جيداً، وهذه التوازنات تعاني اليوم من خلل كبير، وهو يعرفه ايضاً، وبالتالي وضع نفسه أمام خيار ملزم. هل هو قادر على إزالة الخلل لكي يعود التوازن الوطني، وتنجح دعواته الى الحوار؟!
وفي الموازاة، هناك المؤسسة العسكريّة التي تضمّ مكونات منضبطة، من جميع المكونات غير المنضبطة. وقد حافظت على وقارها، وإنضباطها، وتماسكها أمام أعاصير، وأنواء عاتية، على مدى عقود الإستقلال، وشكّلت العمود الفقري لوحدة الأرض، والشعب، والمؤسسات، في الكثير من المحطات التاريخيّة المفصليّة، وهذه مآثر لا يستهان بها، وإن كانت تستقّر، فوق فالق من الزلزال الذي تحرّكه الأنانيات، والمصالح الفئويّة، وعلى قاعدة أن كلّ مكوّن يستطيع أن يؤثر سلباً على هذا الانضباط والتماسك، إذا ما توافرت ظروف لا يرى أنها مؤاتية، ومصالحه.
ويبقى السؤال: هل يبنى على أساسات هذه المؤسسة مداميك الإنقاذ؟
ألجواب ليس عند هذه المكونات المأزومة، ولا عند حفّاري قبور التفتيت، بل عند الخارج الذي يهندس مواصفات لبنان المستقبل طبقاً لمواصفات مصالحه. وهل من بلد في العالم، سيد حرّ مستقل، وعضو مؤسس في جامعة الدول العربيّة ، وفي شرعة الأمم المتحدة، ينتظر الخارج لينتخب له رئيسه، أو ليدبّر له أموره؟!
الجواب، عند الرئيس آميل إده…