/ جورج علم /
تحتلّ صواريخ “محور الممانعة” باتجاه فلسطين المحتلة، زاوية ضيقة في الإعلام الخليجي. الأولويّة مكرّسة لـ”الفتوحات الدبلوماسيّة”. وفد سعودي في طهران، وآخر إيرانيّ في الرياض، وحوار جدّي لوصل العلاقات، وتبادل السفراء، وانكباب على إعداد خريطة طريق لمعالجة الأزمة في اليمن بالتنسيق والتشاور مع عواصم دول القرار المعنيّة والمؤثرة.
واحتلت المجنّحات المتطايرة من سوريا ولبنان وغزّة مساحة في الإعلام الإيراني، لكن الرواية هذه المرّة منقّحة، الصياغة تغيّرت، والأسلوب أيضاً. هناك سرديات تتصل بالاتفاق النووي، وتخصيب اليورانيوم، والحصار المالي الاقتصادي، واستمرار سياسة العقوبات الأميركية.
الخلاصة أن المقاربة الرسميّة الإيرانيّة للصواريخ جاءت متحفّظة، ويعود ذلك لجملة من الأسباب منها:
ـ الخشيّة من أن تستخدمها حكومة العدو الإسرائيلي المتطرفة، كذريعة للقيام بعدوان واسع يستهف المفاعلات النووية.
ـ الخشية من أن يؤدي تصاعد الدفق الصاروخي الى تداعيات ترخي بثقلها على الاتفاق السعودي ـ الإيراني وتنسف جسوره، و”إسرائيل” لا مصلحة لها فيه، وتسعى إلى إبطاله.
هذا لا يعني أن “محور الممانعة” فقد مناعته، لكن سياسة الانفتاح في الخليج، والتي انطلقت من العاصمة الصينيّة، ليست مرحليّة بل استراتيجيّة، وهذا ما دفع بالولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وبعض دول الشرق الأوسط، الى إعادة النظر في حساباتهم، كونها غير متطابقة مع حسابات الاتفاق الصيني ـ السعودي ـ الإيراني.
حتى “الخماسي الدولي” الممسك بالملف اللبناني له حسابات جديدة، انطلاقاً من الآتي:
ـ أولاً، لم يشكّل اجتماع باريس رافعة للاستحقاق الرئاسي اللبناني لأسباب واعتبارات عدة، منها التباينات في وجهات النظر حول كيفيّة مقاربة الملف، وأيضاً بسبب غياب إيران عن الاجتماع أو إبعادها، وهي صاحبة كلمة وموقف مؤثر في الاستحقاق لا يمكن تجاهله.
ـ ثانياً، أن “الخماسي الدولي” بات معنيّاً بالاتفاق السعودي ـ الإيراني، كون السعوديّة عضو أساسي فيه إلى جانب مصر وقطر، ولها مواقف ووجهات نظر لا يمكن تجاهلها في ما يتعلق بالأوضاع المستجدة في لبنان والمنطقة.
ثالثاً، إن “همروجة” الصواريخ الأخيرة لم تبدل من خريطة الطريق السعوديّة ـ الإيرانية المرسومة. كانت هناك مواقف إعلاميّة متمايزة، لكنها لم تؤثر سلباً على مسار تنفيذ ما تمّ التوافق حوله في بكين.
رابعاً، إن الخماسي الممسك بالملف اللبناني، كان متابعاً لحركة الصواريخ، مستنفراً لكل جديد. يعرف تماماً عدد القواعد التابعة لـ”حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ومناطق انتشارها في لبنان، ويعرف الكثير عن حركة الاجتماعات التي تعقد في بيروت مع مسؤولين من التنظيمات الفلسطينيّة الرديكاليّة. ولأنه يعرف ويتابع، أراد أن يمسك بزمام المبادرة حتى لا تجنح الأمور نحو مطبات قاتلة. وانطلاقاً من الحرص والمتابعة، طرحت السفيرتان الأميركيّة والفرنسيّة مجموعة من الأسئلة على الرئيسين نبيه برّي ونجيب ميقاتي، عن نشاطات إسماعيل هنيّة وتنظيمه في لبنان، وداخل بعض المخيمات الفلسطينيّة، وخلفيات زياراته المتكررة إلى بيروت، ولقاءاته العملانيّة مع أحزاب وتنظيمات، وهيئات فاعلة في المجتمع المدني، وموقف السلطات الرسميّة، وكبار المسؤولين من ما يجري، وهل هم على دراية بالخفايا والخبايا، أم أن المياه تنساب من تحت الكراسي من دون حسيب أو رقيب؟
الجواب الرسمي محتشم، الرئيس نبيه برّي التزم الصمت، واكتفى بالاتصالات البعيدة عن الأضواء لضبط الفوضى وإعادة الأمور إلى نصابها.
ولم تتخل حركة “أمل” عن الموقف المتقدم والمعروف من العدو الصهيوني، والمتعاطف الى أقصى الحدود مع القضيّة الفلسطينيّة العادلة، لكن في ما يتعلق بـ”صليّة” الصواريخ الأخيرة لم تكن في الموقع المرحب والداعم والمؤيد، كان هناك دفق من الأسئلة المشروعة التي لم تلق أجوبة مقنعة، مع قلب شفاه من الخفّة، ومن الارتجال الذي يشوب التصرفات الصادرة عن رؤوس حاميّة منفعلة، أو “طوابير” لها مآرب غير تلك المعلنة، والمطعّمة بالمزايدات الشعبويّة.
الرئيس نجيب ميقاتي كان واضحاً وصريحاً. رفض ظاهرة الصواريخ، وأكد موقف لبنان الرسمي المتمسّك بالقرار الدولي 1701، وضرورة تنفيذه بحذافيره، والحرص على الاستقرار في الجنوب، والتعاون مع مهام قوات حفظ السلام الدوليّة “اليونيفيل” إلى أقصى الحدود.
وجاءت الشكوى اللبنانية الرسميّة إلى مجلس الأمن الدولي، لتفي بالغرض المطلوب، تحذير المجتمع الدولي من أي عدوان ترتكبه “إسرائيل” ردّاً على صواريخ القليلة، والحرص على استقرار الوضع على طول الخط الأزرق البرّي والبحري في الناقورة، والشكوى من أمر الواقع الجديد الذي تحاول حركة “حماس” و”الجهاد الإسلامي” فرضه في لبنان بالتنسيق مع جهات محليّة، سواء في المخيمات أو خارجها، ودائماً تحت شعار فتح جميع جبهات المواجهة مع فلسطين المحتلّة.
في موازاة ذلك، تبيّن لاحقاً أن الاتصالات التي أجريت شملت دول “اللقاء الخماسي” والجامعة العربيّة والأمم المتحدة، وبعض عواصم دول الخليج، بهدف “وضع الأمور في نصابها”، قطعاً لدابر التأويلات والتحليلات المغرضة. كما تبيّن أن الشكوى اللبنانيّة قد تمّت بناء على نصائح أسديت من قبل دول نافذة في “اللقاء الخماسي”، لرفع المسؤوليّة عن كاهل لبنان الرسمي، وحصرها بالجهات الفاعلة والمحرّضة، تسهيلاً للقنوات الدبلوماسيّة، وتفعيلاً لدورها الهادف إلى تحقيق غرضين:
ـ الحرص على تحييد الجبهة اللبنانيّة، وبقاء الجنوب ضمن مربع الهدوء، والاستقرار.
ـ إبقاء الاستحقاق الرئاسي في رأس الأولويات، وعدم السماح بفرض أولويات تتقدم عليه بحكم فوضى صاروخيّة مفتعلة.
الخلاصة، أن الموقف الرسمي الذي عبّر عنه الرئيس ميقاتي لاقى صدى واسعاً من الترحيب في دول الخليج، وأيضاً في عواصم “اللقاء الخماسي”، كونه وازن ما بين الإمكانات المتواضعة والتحديات الضاغطة، مستجيراً بالحكمة القائلة: “ما ليس لنا من قدرة عليه، فمن الأنسب عدم تسهيل مخططاته”.