/ جورج علم /
” نحنا عم نكذب عليهم. وهنّي بيعرفو إنو نحنا عم نكذب عليهم. ونحنا منعرف إنو هنّي بيعرفوا أنو نحنا عم نكذب عليهم.. فكيف يكون الإصلاح؟ ومن أين ستأتي الأموال؟!”.
الكلام للنائب السابق سليم سعادة. المكان قاعة مجلس النواب. الزمان خلال جلسة مناقشة حكومة الرئيس سعد الحريري حول الإصلاحات المطلوبة للحصول على 11 مليار دولار موزّعة ما بين منح، وقروض ميسّرة كان قد اقرّها المؤتمر الدولي لدعم لبنان، “سيدر”، الذي إستضافته باريس في نيسان 2018.
…وضجّت القاعة يومها بالضحك، وعلا التصفيق، والتنكيت…
منذ 2018، يدور الحديث عن الإصلاح، سواء مع الدول المانحة، أو مع صندوق النقد الدولي. ومنذ 2018 والكذب ملح الرجال، إلى أن وصل الوطن إلى مكان لا ملح فيه، ولا رجال، بل مجموعة من فاقدي الأهليّة ـ بنظر غالبيّة المسؤولين في الدول الشقيقة والصديقة ـ بحيث يأتي الغريب إلى مجلسهم يؤنّبهم، ويتحدث معهم بنبرة فوقيّة، ثم يغادر، لأنه يعرف ارتكاباتهم وتجاوزاتهم، ويهدّدهم بالعقوبات.
هكذا فعل رئيس وفد صندوق النقد الدولي أرنستو راميريز الذي وصف الوضع في لبنان بـ”الخطير جدّاً، بعد مرور عام على التزام المسؤولين بإصلاحات أخفقوا في تطبيقها”.
وهكذا فعلت مساعدة وزير الخارجيّة الأميركيّة لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف التي انتقدت “قادة لبنان بقساوة”، وقالت عنهم بأنهم “يفتقرون للإحساس بضرورة الإسراع في إخراج البلاد من أزمتها”. وأكدت بأن العلاج يكمن “بالتفاهم مع صندوق النقد الدولي، إنه الممر الوحيد لإخراج لبنان من كبوته”.
ليست الحكاية مشوّقة، كون الشوق يزداد يوماً بعد يوم إلى حبّة دواء لمريض، وزجاجة حليب لطفل، ورغيف خبز لمتضوّر… لكن بعض الملمّين بالخبايا والخلفيات، يسلّطون الضوء على ما يباعد بين كتاب الصندوق، وكتبة سيناريوهات احتضار لبنان، انطلاقاً من نقاط عدّة:
أولها، الخلاف العميق بين المكونات المجتمعيّة اللبنانية، ما بين خيار الدولة والدويلة. والزواج المستحيل بينهما، والإختلاف حول موقع الكيان ووظيفته ما بين “لبنان ذو وجه عربي”، كما كانت الحال في صيغة 1943، إلى “لبنان عربي” في صيغة الطائف، إلى “نحو الشرق در”، وفق ما هو رائج الآن.
الثانية، إن تركيبة لبنان المجتمعيّة لا يمكن أن تنسجم وتتآلف مع الإصلاحات، سواء تلك التي ينادي بها صندوق النقد، أو الدول المانحة.
مجتمع طائفي، مذهبي، متعدد الولاءات، والإنتماءات، مفتون بالإقتصاد الريعي، وغارق في متاهاته حتى أذنيه، لا يمكن أن ينسجم مع من يأمره بالوقوف متأهباً بالصف، ممتثلاً للشروط الملزم بتطبيقها، مستعدّاً أن يدفع الضريبة عن كل خطوة، ومقابل أيّ خدمة. مجتمع أدمن الفوضى الإقتصاديّة ـ المعيشيّة بإسم الحريّة والنظام الإقتصادي الحر، غير مقتنع، لا بل غير مستعد للدخول في شرنقة الصندوق، ووصفات الدول المانحة.
الثالثة، إن بلداً مغموراً بالفوضى، وصاحب امتياز حصري بالأجواء المفتوحة، والحدود المباحة المستباحة، ويستضيف على أرضه ما يفوق عدد سكانه من النازحين، واللاجئين، والطارئين، ومن سياسة دوليّة فوقيّة تطالب بسعة الصدر، والقبول بالتوطين، والإندماج، والسماح بحريّة الإقامة، والسكن، والعمل، والإستثمار… كيف بإمكانه أن يستجيب لشروط تقبض على أنفاسه، وتتحيّن الفرص للإستئثار بموارده، وخصخصة قطاعاته المنتجة، مقابل حفنة من الدولارات التي تأتي معلّبة بإتفاقيات فيها الكثير من السمّ المدسوس بالدسم.
الرابعة، إن أزمة لبنان سياسيّة، وليست إقتصاديّة. عندما ينتخب الرئيس، وتشكّل حكومة ، وتنتعش المؤسسات، ويتوقف النهب، والسلب ، يستطيع أن يحلّق من جديد بفضل إنسانه الخلاّق المعطاء في الداخل، وفي بلدان الإغتراب.
وإنه ـ برأي العديد من خبراء المال والإقتصاد ـ ليس بحاجة إلى صندوق النقد، إذا ما تمكّن من أن يعود طبيعيّاً ليمارس دورة الحياة الطبيعيّة، ويدلف من دون شوائب ومنغّصات نحو الحضن العربي الدافىء.
الخامسة، إن الولايات المتحدة لا تريد لبنان، إنما تريد صندوق النقد في لبنان، وتريد غاز لبنان ونفطه من خلال الصندوق، وتريد التحكّم بمفاصل البلد، وطاقاته، وإمكاناته، وحاضره، ومصيره، ومستقبله، من خلال الصندوق الذي تدير دفّته، وفق ما تشتهي أشرعة مصالحها.
وانطلاقا من هذه الأولوية ترحّب بإنتخاب أي رئيس، حتى ولو كان من غلاة الممانعة، شرط أن يكون من “حزب الصندوق”، وملتزماً بشروطه، وإملاءاته، وفلسفته الماليّة ـ الإقتصاديّة، وهذا ما شكّل ثقباً أسود في نسيج التوافق الخماسي في باريس، ذلك أن الدول العربيّة، وتحديداً الخليجيّة، مع الإصلاحات، لكنها ليست مع الصندوق، وأذرعه العنكبوتيّة، بل مع طاقم سياسي جديد في لبنان، ونهج سياسي، اقتصاديّ، مؤسساتيّ شفاف، ملقّح ضد فيروسات النهب، والسرقة، وشفط المال العام، عندها ترى في لبنان هذا قبلة استثماراتها، وطموحاتها النهضوّية القائمة على تكامل المصالح، وتبادل الخدمات.
إن صندوق النقد، من خلال رعاته الإقليمييّن والدولييّن، يشكل خياراً رئيسيّاً في سباق الإستحقاق الرئاسي، لا حبّاً بلبنان واللبنانييّن، بل حبّاً بإستعمار عصري وفقاً لتقنيات الحاسوب وبرامجه، للسيطرة على الموارد، والطاقات المنتجة، مقابل خيار عربي ـ خليجي ـ دولي بدأ يتبلور بعد إنجاز ملف ترسيم الحدود، ويأخذ مكانة في الاجتماعات والمشاورات حول ضرورة تنفيذ الإصلاحات، شرط ألاّ يكون الثمن سجن لبنان في شرنقة الصندوق.
وتبقى نقطة تلاقي مشتركة: الإصلاح حتماً. والكل يجمع على أن زمن السلب والنهب قد شارفت نهايته، وساعة الحقيقة تقترب. لكن هل يدير ورشته صندوق النقد؟ أم تديرها مبادرة خليجيّة ـ عربيّة مطعّمة دولياً؟
الجواب رهن المستقبل، وما يحمل من تطورات، أو مفاجآت…