فيصل طالب (*)
من بين ما يبقى في الذاكرة من يوميات العمل مع الدكتور رضا سعادة، والانشغال بقضايا الملفات والتقارير ، تلك الجلسات التي كان يحرص على عقدها دورياً مع المفتشين، في إطار العمل الفريقي القائم على تبادل الرأي وتوحيد الرؤى، والذي كان يؤمن بجدواه في تنفيذ المهام الموكولة إلى التفتيش التربوي؛ ولم يكن ليخرق جدّية اللقاءات، ويلطّف جو العمل فيها، غير استحضاره، ربطاً بما يؤول إليه سير المناقشات، بعض النوادر والأمثال الشعبية المستقاة من التراث الشعبي اللبناني، وما يرافقها من رنّات الضحكات الخارجة من نفس راضية تنضح بطيب السريرة وحلاوة المعشر.
رضا سعادة واحد ممّن تسنّم سلّم الوظيفة العامة درجة درجة، حتى بلغ أعلاها مفتشاً عاماً تربوياً، بدأب وكدح مشهودين. وربما لهذا السبب، معطوفاً على ما اختزنته نفسه من رجاحة العقل، وكرم المحتد، وسماحة الموقف، وسعة الرؤية، لم تغيّره المناصب، وظلّ، بعد تعيينه في موقعه الرقابي الجديد، وفيّاً لتاريخه التربوي معلّماً و أستاذاً ثانوياً، ورئيساً للمنطقة التربوية في الجنوب، وما تخلّل كل ذلك من إنجاز الدراسات والتآليف المرجعية في ميادين الفلسفة والدين والتربية والإدارة …، ولذلك يمكن أن نفهم، بناء على ما تقدّم، سبب ميله إلى التلطيف بقدر الإمكان من قساوة العقوبات والتدابير بحق موظّفي التعليم المنسوبة إليهم مآخذ معينة، في حدود ما تسمح به القوانين والأنظمة النافذة.
عرفتُ رضا سعادة رجلاً مفطوراً على البساطة والعفوية إلى أبعد الحدود، مؤمناً بجدوى الحوار في كشف جوانب الحقيقة، راذلاً أيّ نزعة سلطوية في أداء مهامه. وربّما كانت صراحته ووضوحه البائنان علامته الفارقة وسمته الأساس، فضلاً عن تحلّيه بعاطفة نبيلة جعلته يقود التفتيش التربوي بروحية رب العائلة الواحدة، الحريص على كل فرد فيها، والتي كانت تسمح أحياناً لجليس صديق، وفي مواقف معينة، أن يلحظ في عينيه بريقَ دمعة تحتجزها في المآقي رصانةُ الموقع الوظيفي.
أيها الصديق الصدوق..
وأنت ترحل بصمت الزاهد بهذه الدنيا إلى الدار الآخرة، فإنك تترك وراءك رصيداً من الإخلاص في العمل، والحرص على الصالح العام، وممارسة الوظيفة الإشرافية والتسلسلية من موقع المسؤول الإنسان قبل أي شيء آخر. لكنّك تترك أيضاً بقعة من الأسى تُضاف إلى هذه المشهدية الشاحبة التي دخلنا فيها، في زمن قاحط غادر ماكر كان مختبئاً خلف تلال الخداع والأوهام، ثمّ انقضّ علينا كالذئب المسعور ينهش ما تبقى لنا من مقوّمات العيش حتى الرمق الأخير.
فيا صديقي د. رضا..
يكفيك ذخراً لمرضاة الله والسكن في فسيح جنانه أنك أحجمتَ عن الزبد الذي يذهب جُفاءً، وأقدمتَ على ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
رحمك الله.