كتب ابراهيم الامين في “الاخبار”: «يروح يبلّط البحر»، عبارة يستخدمها من لا يهتمّ لرد فعل خصم أو عدو. لكن استخدامها له وقعه، بحسب القائل وبحسب الواقعة. وعندما يقول الأمين العام لحزب الله هذه العبارة، في معرض ردّه على تهديدات وزير حرب العدو، فإن لها وقعاً مختلفاً. إذ إن الجميع يعرف من هي “إسرائيل”، والجميع بات يدرك من هي المقاومة في لبنان. أما السؤال المركزي فهو المتعلق بالتوقيت.
منذ عملية مجدو الأخيرة، يبدو العدو متلعثماً في حديثه عن الجهة المسؤولة. صحيح أن التسريبات الأمنية إلى الإعلام الإسرائيلي تتحدث صراحة عن علاقة لحزب الله بالأمر، لكن اكتفى الجيش والمؤسسة الأمنية والحكومة، حتى الآن، بالبيان الغامض الذي صدر بعد يومين على العملية. بعدها، فإن كل كلام منسوب إلى مسؤول إسرائيلي أو مؤسسة معنية، يستخدم «إذا» الشرطية في معرض مقاربة الحادثة الأكثر خطورة كما يقول العدو. وهذه الـ «إذا» ليست مناورة كلامية، بل تعبير عن أزمة يعيشها صانع القرار في كيان الاحتلال.
ليس في المنطقة من يعتقد بأن العدو في حال من الضعف تمنعه من الردّ على أي هجوم أو شن الهجمات ابتداء. لكن، ليس في المنطقة أيضاً من يمكنه الجزم بأن أي اعتداء إسرائيلي يمكن أن يمر من دون ردّ، خصوصاً من جانب لبنان. لذلك، كانت العبارة التي أضافها السيد حسن نصرالله، في معرض رده على وزير حرب العدو، عندما قال: «إذا نفذتم أي عمل عسكري أو أمني ضد لبنان أو ضد أي لبناني أو فلسطيني أو من أي جنسية ومقيم في لبنان، فإن المقاومة سترد وسريعاً».
عملياً، منذ عملية مجدو، يتصرف العدو وكأنه أمام حدث غير مسبوق. ولا يتعلق ذلك فقط بكون العملية مختلفة، وبأن العبوة التي استُخدمت فيها لم يعتد العدو على حيازة المقاومين داخل فلسطين المحتلة لها. بل تكمن الحكاية، بالنسبة إلى العدو، في أن من قرر القيام بهذه العملية، نفّذها في سياق غير اعتيادي. وهذا ما يدفع العدو ليس إلى البحث عن كل ما يمكن جمعه من تفاصيل حول العملية فحسب، بل إلى جمع معطيات وتقديرات حول السياق الجديد. والأسئلة التي يطرحها عديدة: هل يقف حزب الله فعلاً خلف العملية؟ هل الحزب هو من قرّر وخطّط وجنّد المقاوم ومن درّبه وحدد الهدف له وتابع الأمر حتى نهايته؟ وهل قرّر الحزب القيام بهذا العمل لإظهار دعم عملياتي أكبر لحلفائه الفلسطينيين، أو أنه يَرِدُ إطار ما هدّد به نصرالله رداً على ضغوط يتعرض لها لبنان؟
الهدف من الإجابة عن هذه الأسئلة الوصول إلى إجابات مبكرة لأسئلة افتراضية أشد تعقيداً: ماذا لو أن حزب الله قرر تسخين الجبهة ويحاول جرّ إسرائيل إلى حرب؟ أو ماذا لو كان الحزب يعرف أن إسرائيل ليست في وضع يمكنها من شن حرب، وقرر بناء على ذلك رفع مستوى المواجهة معها؟ وهل قرار حزب الله، في حال ثبت، جزء من قرار أوسع يشمل جبهات أخرى وقوى أخرى في محور المقاومة؟
كذلك، هناك نوع ثالث من الأسئلة ذات البعد الأمني والعملياتي: إذا كان حزب الله مسؤولاً عن العملية فما الذي يريد إخبارنا به؟ هل يعني أن كل الإجراءات التي نقوم بها على الحدود لا نفع لها؟ أم أنه يريدنا أن نعرف بأنه جاهز للعبور متى قرر وكيفما أراد؟ وهل سبق أن جنّد الحزب خلايا داخل فلسطين المحتلة تساعده على العمل دعماً أو تنفيذاً؟ وماذا لو كان هناك أكثر من متسلل وأكثر من عبوة وأكثر من هدف؟ وهل صحيح أن العملية فشلت في اصطياد باص كبير أم كان القرار منذ البداية بأن يكون الهدف بهذا الحجم فقط؟
العدو الذي يحاول جرّ المقاومة في لبنان إلى تعليقات أو توضيحات أو تفسيرات تساعده على فهم الأمر تماماً، لم يكتف بما أعلنه مباشرة أو عبر الإعلام. بل عمد إلى استخدام قنوات ديبلوماسية لإيصال رسائل إلى المقاومة في بيروت. وهو بعث بتهديدات من جهة، وعرض لما يعتبره وقائع حول خلايا لحزب الله أو مسؤولين معنيين، أوحى بأنه سيتم التعامل معهم إن لم يتوقّف نشاطهم.
وإلى الرد الذي أطلقه حزب الله على لسان السيد نصرالله قبل يومين، عاد حاملو رسائل العدو إلى تل أبيب بأجوبة أكثر وضوحاً: «نحن لا نخجل من وقوفنا إلى جانب المقاومة في فلسطين، ولن نتوقف عن دعمها. وإذا فكر العدو بالتحرك ضد أي هدف مدني أو عسكري أو أمني أو ضد أي منشأة، عسكرياً أو من خلال عمل أمني خاص، فعليه توقع الرد سريعاً وقاسياً!
بالنسبة للعدو الأجوبة العلنية أو عبر القنوات الخاصة تمثل تحدياً جديداً
بالنسبة للعدو، الأجوبة العلنية أو عبر القنوات الخاصة تمثل تحدياً جديداً. وهي اليوم العنوان الأول على طاولة المسؤولين العسكريين والأمنيين في كيان الاحتلال، إضافة إلى المتابعة الخاصة من قبل المستوى السياسي. وإذا كان الحدث الداخلي في كيان الاحتلال، وتزعزع علاقات حكومة بينامين نتنياهو الخارجية يفرضان جدولاً خاصاً على وسائل إعلام العدو، إلا أن الجهات المختصة تتصرف على أنها معنية بتوفير جواب عملاني على سؤال سياسي يصدر من حكومة العدو: هل يجب علينا الرد على حزب الله، وإذا كان الأمر كذلك فأين ومتى وكيف؟
في هذه الأثناء، يمكن رصد تعليقات ومواقف وتسريبات تصب في خدمة التقدير بأن العدو مضطر لتوخّي الحذر الشديد في أي خطوة ينوي القيام بها. وإلى جانب التهديدات التي نسمعها، نسمع أيضاً تسريبات يومية عن تحركات يقول العدو إن المقاومة تقوم بها على طول الحدود الجنوبية، وإن حزب الله ينشر آلاف المقاتلين، ويستقدم مئات المقاتلين الفلسطينيين إلى المناطق الحدودية، وهو يقود ما يسميه العدو الاستفزازات اليومية التي تحصل مع القوى العسكرية والهندسية التي تعمل على السياح التقني… وصولاً إلى السؤال عما فعله الحزب بعد انفجار اللغم بجرافة إسرائيلية على الحدود، كالحديث عن عدم تمكن العدو من جمع أشلاء الجنود المصابين، ونقل أحد الجنود إلى المستشفى بفردة حذاء واحدة؟
أما عن تأثير الأزمة السياسية، فإن النقاش لا يبدو محسوماً حيال ما يمكن لنتنياهو القيام به. فهو، من جهة، لا يريد للأزمة أن تتفاقم، ومكتبه يجمع له التعليقات والبيانات والتحذيرات من انعكاس الأزمة على قوة الجيش وقوة الردع، لكنه لا يظهر حالة تردد أو ذعر كما يتصور كثيرون. وهذا لا يعني أنه سيذهب حتماً إلى مغامرة، لكن الأكيد أنه يتصرف على قاعدة أنه في حالة سقوط حكومته هذه، فقد يكون خسر كل مستقبله السياسي.
ثمة عبارة قالها رئيس أركان جيش العدو السابق، غادي أيزنكوت، وفيها: «حدث الشمال تحول استراتيجي، وقد انكسر الردع الذي قام خلال 17 عاماً. نحن نواجه أخطر الأحداث منذ حرب لبنان الثانية، 2006. وعدم الرد هو رسالة ضعف»!.