/ جورج علم /
هناك من رفض اجتماع الـ64 نائباً مسيحيّاً في بكركي. والرفض موقف سياسي ديموقراطي، يصبّ في خانة المصلحة الوطنيّة العليا إذا ما جاء مبرراً بحجج دامغة، وحقائق مقنعة، وأيضاً بطرح بدائل منطقيّة تؤدي الى “أكل العنب”، لا “قتل الناطور”.
وما تناهي إلى بكركي أن الرفض لم يكن مقنعاً، ولا البدائل متوافرة، وهذا ما دفع بعظة الأحد الماضي لأن تتخذ منحىً تصعيديّاً يوقظ الضمائر المشاركة في جنازة الوطن إلى حتفه الأخير.
كان كلام عن “خيانة”، و”خونة”، وهذا طفح غضب على الذين حولوا الأمانة إلى وسيلة في بورصة الإستحقاق الرئاسي، بهدف تعزيز المكاسب الخاصة. “إن نواب الأمة، بالطاعة العمياء لمرجعياتهم، يحجمون عن انتخاب رئيس للجمهوريّة، ويؤثرون الإنهيار المتفاقم في المؤسسات الدستوريّة، والعامة، وقهر الشعب، وإرغام خيرة قوانا الحيّة على مرارة الهجرة. أليست هذه خيانة عظمى؟ بل جرماً عظيماً بحق الشعب اللبناني، والدولة…”.
وحنق بكركي يتعدّى الأسباب الشكليّة حول الدعوة من عدمها، وهي أساساً لم توجّه، إنما سبقتها محاولة “جس نبض” كانت نتائجها متوقعة، لأن أحداً من “الأقوياء” الموارنة، لا يريد أن يترجّل عن صهوة جواده، والمعركة في عزّ حماوتها حول اقتناص المكاسب، من دون النظر إلى ما تحدثه الصولات والجولات من هدمٍ متمادٍ للمؤسسات.
فريق نأى بنفسه عن الإجتماع لأن الحكمة عنده تقضي الهدوء، والتروي، وتجنّب الدعسات الناقصة، وضبط الساعة وفق توقيت الحلفاء لدخول السباق في الوقت المناسب، ثم إن بكركي على اطلاع بالخفايا والخبايا، وكانت دعواتها مستجابة من قبله، قبل أسبوع، وكانت المصارحة من حواضر كرسي الإعتراف.
فريق ثان استجاب، وتحمّس، ووجد الفرصة سانحة لكي يصول ويجول بما عنده من مقاربات تشدّ العصب، وتفتح أمامه الكثير من الأبواب المغلقة، همّه أن يكون واحداً من صنّاع القرار، وهذا لا يتوافق مع حسابات الآخرين، ولا يتفق مع مصالحهم الخاصة، وخطابهم السياسي القائم على الانتقاد والتحريض بهدف الترويض حتى الاستسلام.
وفريق ثالث يقدّم نفسه على أنه صاحب استراتيجيّة واضحة الأهداف والأبعاد، وعنده “عدّة شغل”، ولديه فريق عمل على تحقيق الشعارات الكبيرة، وانتخاب رئيس سيادي. لكن التجربة أفضت إلى نتائج غير مشجّعة لغاية اليوم. وقياساً للجولات السابقة من مسرحية الإستحقاق في ساحة النجمة، تبيّن بأن هذه الإستراتيجيّة تحتاج إلى عناصر مكمّلة غير متواقرة، وإلى تكتلات وازنة متطابقة المواصفات، لكنها غير متاحة لغاية الآن، وإلى خطاب هادىء أبجديته لبنانية، غير مستوردة، أو موحى بها من الخارج.
إن التنافر حول الخيارات، ناجم عن تنافر التحالفات الخارجيّة، وإن كانت مصطلحات السيادة، والحريّة، والديمقراطيّة، والدولة القوية القادرة والعادلة، والحقوق، تشكل جامعاً مشتركاً، إلاّ أن “الأنا” لا تزال هي الطاغيّة، والصراع من حيث بوادره العميقة هو صراع حول الحصص، والمكاسب التي يسعى إليها كل طرف، ولو على حساب المصير اللبناني، وهذا ما يثير حفيظة بكركي الواقفة أمام الشطط الماروني، تشاهد بحسرة وقلق بالغ، غروب وطن، وإضمحلال شعب.
لو كان لدى الممانعين للقاء بكركي، قطب مخفيّة قد تظهر قريباً في ثوب جديد يصار حياكته للإستحقاق الرئاسي، لكان في النفس ما يوحي بأمل واعد. لو كان الرافضون أصحاب مشروع واضح خارج إطار الشعارات الشعبويّة، مدعوماً بضمانات محليّة وخارجيّة حاسمة، لكان يمكن الرهان على ضرورة حبس الأنفاس، والتروي، وعدم المجازفة، بانتظار الفرج، لكن ما يحصل الآن مريب، وكأن “أم الصبي” تساهم في قتله عمداً، وإن كانت تدّعي الحرص على سلامته، والغيرة على إنقاذه.
إن الأساليب المتبعة، عقيمة، كونها تساعد على الإنهيار، وتبيح الفرص المؤاتيّة أمام معاول الهدم لتجويف الوطن من مرتكزاته، وتركه هباء في وجه العواصف والرياح المتآلبة عليه من كل حدب وصوب، وفي هذه الحال ماذا ينفع تبادل الإتهامات، والتراشق حول المسؤوليات عندما يصبح الجامع المشترك في خبر كان؟!
وما يزيد من الحرج، والإرباك أن الرئيس نبيه برّي دعا إلى الحوار، ورفضه بعض الموارنة “الأقوياء”. ودعت بكركي إلى الحوار، لكن لم تستجب دعوتها، والحجّة أنه لن يكون هناك من توافق، فيما التوافق يدور على كلّ شفة ولسان، وتدعو إليه غالبية الكتل للتلاقي على إسم رئيس غير مستفز، يأتي “كتسوية”، ويستطيع من خلال وسطيته أن يتعاون مع الجميع لإنجاح مشروع إنقاذي. لكن يبدو مصير التوافق، لغاية الآن، كمصير الحوار، وينظر إليه كل طرف من زاوية مصالحه، ومصالح الخارج الذي به يستجير، وهذا ما يساعد على تنفيذ المخطط الهادف للقضاء على لبنان الذي نعرفه، من دون أن نتلمس معالم لبنان الجديد.
يبقى أن “خائن” و”خونة”، وما ينتسب إليهما من مفردات، تعبر عن فورة غضب، وواقع مأزوم، ونهج مرفوض في البيت الماروني الذي أصبح بمنازل كثيرة متباعدة. لكن هذا لا يغني عن القول بأن “الكل عم يحكي تركي، إلاّ بكركي”، إنها البوصلة الأصليّة الأصيلة، تعرف الإتجاهات المؤدية نحو الفجر الواعد، وتقلبات الريح، ولأنها تعرف، تملك الكثير من المرونة الوازنة بالحكمة والحنكة لإنقاذ الوطن رغم العواصف العاتية. يقينها أن خشبات المركب من ضلوع الأرز رمز الصمود والخلود.
وفي مقابلته العامة في قاعة بولس السادس في الفاتيكان، عشيّة الذكرى السنوية الثانية لانفجار مرفأ بيروت، قال البابا فرنسيس: “آمل أن يواصل لبنان، بمساعدة المجتمع الدولي، السير على طريق الولادة الجديدة، والبقاء وفيّاً لدعوته أن يكون أرض سلام، وتعدديّة، حيث يمكن للجماعات من مختلف الأديان أن تعيش في أخوة”.
بكركي ليست بعيدة عن الفاتيكان، و”الولادة الجديدة” بحاجة الى قابلة وطنية مشهود بولائها الصافي من عيار 24 قيراط!