هكذا تواجه إيران حروب “العالم الافتراضي”!
/ خاص “الجريدة” /
لكأن طهران، التي تستيقظ عندما يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، لا تعلم أنها عاصمة الدولة التي تمدّدت خارج حدودها، نفوذاً أو حضوراً أو تأثيراً أو قضية…
كل ما في المدينة يسير بإيقاع رتيب، وبوتيرة هادئة، وبأعصاب باردة تشبه طقسها الجليدي. تقطع هذه الرتابة أصوات تعلو من هنا وهناك لباعة في السوق وعلى “ضفافه”، ولوهلة غير قصيرة تحضر فجأة مشاهد أسواق “الرحاب” والضاحية وصيدا وطرابلس وبعلبك. المشهد مألوف جداً للبنانيين. بل ربما هو مشهد منسوخ من بعض الأسواق الشعبية في لبنان…
لبنان حاضر هنا… ليس في الأسواق فحسب، وإنما أيضاً في وجدان الكثيرين، وطبعاً في عقول المسؤولين الإيرانيين.
المسافة بين بيروت وطهران تصبح صفر كيلومتر عندما يذكر إسم السيد حسن نصر الله الذي يبدو أنه حفر عميقاً في وجدان الإيرانيين، من مختلف المستويات. تقدير كبير، احترام شديد، حضور قوي… “سماحة الإمام القائد (الخامنئي) يقول إن طلبات السيّد نصر الله أوامر في الجمهورية الإسلامية”. هذا ما يردّده المسؤولون الإيرانيون عند الحديث عن مساعدة إيران للبنان، وخصوصاً في ملف الفيول للكهرباء.
هنا ينكشف بوضوح حجم الارتباط الوجداني بين إيران و”حزب الله”، ويتبيّن أن العاملين من “حزب الله” على تمتين هذه الأواصر قد نجحوا في تمتين حبال العلاقة، ونسجها بشكل محترف. يبرز هنا بوضوح دور السيّد عبد الله صفي الدين. الرجل يرمي بثقله لمنع تراكم أي غبار على سطح العلاقة، بل ويستثمر في هذا الارتباط الوثيق لصالح لبنان. كميات الأدوية التي يعمل على إرسالها دورياً إلى بيروت تخفف كثيراً من معاناة عشرات آلاف اللبنانيين، ومن مختلف الطوائف، للحصول على الدواء أولاً، ثم الحصول عليه بأسعار مقبولة، إضافة إلى العديد من العمليات الجراحية التي يؤمنها لكثير من اللبنانيين الذين يتم نقلهم من بيروت إلى طهران. هذا فضلاً عن المساعدات الغذائية التي صارت متوفّرة في الضاحية الجنوبية والعديد من المؤسسات التابعة لـ”حزب الله” في الجنوب والبقاع وبيروت.
واضح أن الرجل نجح في صياغة شبكة خدمات صحية ـ اجتماعية، يوظفها لصالح لبنان، من دون تمييز بين اللبنانيين.
وواضح أيضاً، أن السيد صفي الدين نجح في المهمة التي اختاره لها “حزب الله”، ولم يعد اللبنانيون يشعرون بـ”الغربة” في إيران، بسبب الجهود التي يبذلها معهم وفي دوائر القرار في طهران.
منزله تحوّل إلى مستوصف حيناً، ومضافة للبنانيين أحياناً، ومركز عمل اجتماعي في كثير من الأحيان. لكنه أيضاً، حوّل منزله إلى منتدى سياسي لحوارات بين اللبنانيين ومسؤولين إيرانيين. فعل ذلك مؤخراً مع “الثورة” التي حصلت في “العالم الافتراضي” في إيران، والتي أزعجت المسؤولين الإيرانيين لأن حقيقتها مغايرة، ولأن ما صوّره “العالم الافتراضي” في وسائل التواصل الاجتماعي وفي بعض الإعلام، ليس واقعياً. هنا، ربما، شعر الإيرانيون بالحاجة إلى خبراء في هذا “العالم”، يستطيعون منحهم بعض المعطيات عن كيفية التعامل مع وسائل التواصل.
الواضح أن المسؤولين الإيرانيين تعاملوا مع ما حصل من حوادث متفرقة مؤخراً، بشيء من “البراءة”. ما حصل، كشف أن المسؤولين الإيرانيين لا يعلمون شيئاً عن “الجيوش الإلكترونية” وعن “الحروب” الشرسة في “العالم الإفتراضي”.
تلك الانطباعات عكستها جلسة في منزل السيد صفي الدين، ضمّت مستشاراً للرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي. في تلك الجلسة، انكشف بوضوح ضعف الإيرانيين في التعامل مع هذا النوع من “الحروب”، ولم ينتبهوا أن “حروب العالم الإفتراضي” تسببت بحروب حقيقية وحمامات دماء وتدمير دول وانقسامات بين الشعوب وتغيير أنظمة في العديد من دول العالم.
تجاوز الإيرانيون “الحرب” هذه المرة، لكنهم بدأوا يستطلعون لاكتشاف هذا “العالم” الذي يشوّه الحقائق ويضخّم الأحداث ويهدّد الأمن والاستقرار في إيران، كما فعل في دول أخرى.
يثق الإيرانيون باللبنانيين. ولهذا، بدأوا يستعينون بخبراتهم في حروب الـ”سوشيال ميديا”، لأنهم يدركون أن ما شهدوه هو “جولة” من حرب طويلة ضد إيران، ولذلك لا بد من الاستعداد للجولات الأخرى.
المشكلة أن الإيرانيين ما زالوا بطيئين في التعامل مع هذا “العالم الافتراضي”، بل إن برودة الأعصاب تتسبب ببرودة في طريقة التفكير. هم لا يملكون استراتيجية حقيقية لمواجهة الحروب الإعلامية. ما زالوا يفترضون أن ما تبثه قنواتهم الرسمية والقنوات الناطقة صراحة بإسمهم، يكفي لتوضيح الصورة ونقل الحقيقة.
ثمة حاجة ملحّة لتغيير في نمط التفكير الإعلامي. في الشاشات والإذاعات والصحف والمواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي. ويبدو أن قناعة بدأت ترتسم لدى بعض المسؤولين الإيرانيين بصياغة استراتيجية إعلامية إيرانية، لكن هذه القناعة لم تصبح قراراً على مستوى الدولة، ولا يبدو أن هناك استعجالاً لصياغة هذا القرار!