الإجراءات الصحيّة للوقاية من كورونا لا تزال على حالها منذ أن عادت الزيارات إلى قصر الرئاسة الثانية في عين التينة مع انحسار وباء كورونا. الحضور المسائي، في البهو، بات محصوراً بتجمّع صغير من الضيوف، يسيرون بخطوط متباعدة. يلتزم الجميع بالكمامات، ولا يفارق العازل البلاستيكي الشفاف وجه رئيس مجلس النواب نبيه برّي.
تقلّصت «التمشاية» ثلاثين دقيقة. لكنّ بري حافظ على ساعة من المشي «الثمين»ـ بين السادسة والسابعة من كل يوم، يتبادل فيها الأحاديث مع رفاق الدرب بين أول البهو وأقصاه، بعد أن حُرم المشي في الخارج منذ زمن بعيد.
رئيس المجلس ليس مرتاحاً هذه الأيام. ألقت السنوات حملاً ثقيلاً على كاهله، لتأتي الأزمة السياسية الأخيرة بمثابة مؤشّر إلى خطر وشيك لانهيار الدولة والمجتمع وتعاظم النَّزعات الطائفية. التطوّرات تهدّد كل سنوات الاستقرار النسبي في البلد، والتي «ثُبّتت» بالدم قبل اتفاق الطائف، وعبرت ممرّات ضيقة جداً من مرحلة اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى انعكاسات الحرب الطويلة في سوريا.
واقعاً، لم تغيّر 17 تشرين كثيراً في قراءة برّي للمشهد اللبناني. ثوابته لا تزال على حالها: الحفاظ على التحالف الوثيق مع حزب الله وضرب أي سيناريو عراقي كان مُعدّاً للبنان يهدّد المقاومة، إخماد أي احتمال لاقتتال شيعي – سنّي عبر التمسّك بالطائف، «ليس حبّاً بالطائف الذي لم تُنفذ إصلاحاته، إنّما لأنه الاتفاق الذي أوقف سيل الدماء»، والحفاظ على خطوط الاتصال والتشاور مع العرب والغربيين مهما كانت مستويات التشنّج مرتفعة.
آذت الانتفاضة رئيس المجلس واستفزّت مناصري الحركة إلى حدّ استخدام العنف والسلاح. ليس سهلاً على بري أن يسمع الاتهامات في الشارع لشخصه وعائلته وللحركة التي يحمل مسؤوليتها منذ غياب الإمام موسى الصدر. لكنّ الانتخابات النيابية مع كل المتغيرات التي حملتها، أعادت رئيس المجلس خصماً و/أو حليفاً ضرورياً للجميع، في الداخل والخارج، رغم حجم التصويب الشخصي عليه، وفي ظل العقوبات الأميركية وورقة انفجار المرفأ التي تطارد أقرب المقرّبين، الوزير علي حسن خليل، لكي تنفذ إليه بالاتهام السياسي.
الصراع مع الرئيس ميشال عون كان مكلفاً أيضاً، للبلد أولاً وللفريق السياسي العريض الذي ينتمي إليه التيار الوطني الحر وحركة أمل، ومتعباً لحزب الله خصوصاً. لا يفرد برّي مساحةً واسعة للحديث عن العلاقة مع عون، مع تأكيده أن مسألة الكيمياء المفقودة غير صحيحة. لكنّه يعود ليذكّر بهواجسه عشية انتخاب عون، حين قال إنه يخشى أن ننتخب رئيسين وليس رئيساً واحداً، وأن الأفضل الاتفاق على «السلّة» الشهيرة. طبعاً، لا ينسى دفاعه الشرس أمام القطريين عن حقّ عون والتيار الوطني الحرّ بالتمثيل في الحكومة خلال اتفاق الدوحة، «عن قناعة تامة لمصلحة لبنان والمسيحيين والمسلمين فيه».
ما لا يقوله برّي عن العلاقة مع عون، يتردّد في الأحاديث الجانبية على لسان الحاضرين ممّن عايشوا السنوات الست الأخيرة يوماً بيوم. شعر ساكن عين التينة، أن عون الرئيس، لم يطوِ فعلاً صفحة الماضي، بل مارس السياسة بانتقام من مرحلة غابرة، دفع البلد فيها آلاف الضحايا والدمار، مع رغبة عارمة بإعادة البلد إلى ما قبل الطائف، رغم كل التجارب المريرة.
بداية عهد الرئيس كانت فرصة للحوار والتلاقي بين الطرفين. لكن انقلبت الآية سريعاً، «أدار رئيسان القصر الجمهوري، عون والوزير جبران باسيل، وتحوّلت الحركة إلى خصم غير معلن، ثم إلى خصمٍ معلن بالاتهامات المستمرة بعرقلة خطة الكهرباء»، وازدادت العلاقة سوءاً مع الترقيات العسكرية في ما يُعرف بـ«دورة عون 1994»، وكرّت السبحة، «زاد باسيل مستوى الخطاب الطائفي ولم تُحل قضية مأموري الأحراج حتى الآن، وزاد هجومه على الحركة».
بعد الأسبوع الأول على 17 تشرين، تشاور الحلفاء في الحزب والحركة والتيار، «واتفقوا على مواجهة الهجمة على الفريق يداً واحدة. لكن سرعان ما عمل باسيل بنصائح شركة علاقات عامة غربيّة تعاقد معها لتعديل صورته أمام الرأي العام بعد ما حصل في الشارع. نصحته الشركة بالهجوم على الجميع وعلى الرئيس بري خصوصاً».
يضيء الحركيون على زاوية علاقات التيار الوطني الحرّ المتوتّرة بالجميع، وباسيل تحديداً، ليس بحركة أمل فحسب، الرئيس سعد الحريري مثالاً، وهو الذي عقد معه عون تفاهماً أدى إلى انتخابه رئيساً، و«الأمثلة كثيرة عن التحالفات ثم الانقلاب».
الاتهامات للحركة بحماية حاكم المصرف المركزي رياض سلامة أكثر ما يزعج الحركيين في خطاب التيار الوطني الحرّ. «حين وصل الرئيس بري إلى بعبدا في جلسة التمديد الشهيرة، كان عون والحريري قد اتفقا على التمديد، والرئيس بري تحمّل بصدره التصريح على منبر القصر الجمهوري، ربّما كان عليه أن يترك المنبر لعون لكي يتحمل المسؤولية التي يتملّصون منها اليوم».
الكلام عن الماضي المضطرب بين الجانبين يطول. لكن يردّ الحركيّون على المواقف الأخيرة من جلسات الحكومة المستقيلة وتحويلها إلى «استهداف للمواقع المسيحية» ضرباً من التجنّي، «لم نتدخل في تعيين مسيحي واحد طوال عهد الرئيس عون، وجميع الذين اختارهم إمّا انتقلوا إلى موقع سياسي آخر أو تقاتل معهم باسيل، من قائد الجيش إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى، مروراً بكثر. من يستهدف المواقع المسيحية؟ باسيل أم الحركة؟ ما نشعر به نحن ولا نقوله هو محاولة استهداف أيضاً لدور المجلس النيابي. هذا الأمر غير مقبول لأن المجلس هو آخر معاقل الشرعية في الدولة المتهالكة».
مع كل الاحتقان، يترك أكثر من قيادي «صفّ أول» في الحركة الباب مفتوحاً على إمكان التفاهم مع التيار الوطني الحرّ. «لا يزال ممكناً التفاهم مع التيار لما يجمعنا من العناوين الوطنية والخط السياسي. وبالإمكان أيضاً التفاهم على انتخاب رئيس حليف لباسيل ومن فريقنا السياسي، بدل التفريط بالفرصة وإيصال مرشّح مهما تكن هويته السياسية فلن يكون حليفاً لباسيل».
أسئلة أخيرة لرئيس المجلس الذي يتجاوز ما لا يعجبه من الأسئلة ويفضّل الصمت هذه الأيام على المقابلات. متى يتم انتخاب الرئيس؟ «حين يتّفق اللبنانيون على رئيس، وأنا طرحت الحوار، وهاجموني بدل أن يفهموا أن هذا هو المخرج الوحيد والبلد لم يحتمل التأخير أبداً». ماذا عن خطاب التقسيم: «كلام سمير جعجع متقدّم وخطير حول الموضوع. لكن لا أعتقد أن هناك جديّة في هذا الطرح إنّما في إطار المزايدة والمناكفات المسيحية – المسيحية، للأسف. لبنان صغير، وهو مثل الذرّة، إذا انشطر ينفجر ويُحدِث دماراً كبيراً». ما هدف زيارة السفيرة الأميركية الأسبوع الماضي؟ «مقابلة، مثلك. دخلت من الباب ومشيت معي ساعة كاملة، ثم غادرت عندما تركت القاعة وودّعت الجميع. أخدت شي تسع مقابلات يمكن».
فراس الشوفي – الأخبار