/فاتن الحاج/
بحجة أّنهم «يعيشون كثيراً وليسوا منتجين»، لا تتردّد السلطة السياسية في إذلال الموظفين المتقاعدين على أبواب المستشفيات والمصارف. العلاقة بين المتقاعدين وزملائهم في الخدمة ليست على ما يرام، ما يفتح المجال للمسؤولين لأن يتهاونوا بحقوق المتقاعدين ويستخفوا بهم.
لطالما اعتبرت السلطة السياسية المتقاعدين من الوظيفة العامة عبئاً ثقيلاً. تتمنى لو تتخلّص منهم. وبدلاً من أن يكون التقاعد مساحة لبناء النفس صحياً واجتماعياً، تضع السلطة المتقاعد في هوّة الفقر، وتذلّه على أبواب مصارف تحجز مدّخرات عمره و«تنقّطها له بالقطارة»، وأمام مستشفيات وصيدليات تتحكّم برقبته، حتى بات يستجدي ثمن الدواء من الأولاد والأحفاد.
ثمة سباق محموم بين الفاتورة الصحية وتقاعس السلطة في رفع اعتمادات تعاونية موظفي الدولة التي لا تغطي أكثر من 10% من كلفة الأعمال الطبية. فالتعاونية مثلاً تحدّد الآن تعرفة الطبيب المختص بـ650 ألف ليرة، في حين تتجاوز واقعاً الـ50 دولاراً. يروي متقاعدون كيف أن المستشفيات لم تعد تقبل مرضى غسيل الكلى؛ وعلى المريض أن يدفع كلّ ما يتوجب عليه، فيما أدوية الأمراض المستعصية والمزمنة غير متوفرة في الصيدليات، ولا حتى لدى تجار الأدوية، والبدائل مفقودة.
الأمن الصحي مفقود
أحد المتقاعدين يقول إن ابنته مصابة بالتصلّب اللويحي، وهناك إبرة كانت تؤمنها وزاره الصحة شهرياً، ولم تعد متوفرة لديها، إنما موجودة في بعض مستودعات تجار الأدوية، وثمنها يفوق معاشه التقاعدي.
ويروي الأستاذ المتقاعد، مهدي الرمح، تفاصيل رحلة علاج والدته التي كسرت وركها «اضطررنا أن ندور على أكثر من 6 مستشفيات في زحلة وبعلبك، ووصل المبلغ المطلوب دفعه كفارق لـ»التعاونية» إلى 4 آلاف دولار. أجرينا العملية في مستشفى بعلبك الحكومي، ودفعنا 12 مليون ليرة، إضافة إلى جهاز بقيمة 1100 دولار سدّدنا ثمنه مباشرة لمندوب الشركة الوكيلة قبل بدء العملية، بعدها خرجت من المستشفى. وبسبب ازرقاق في أسفل قدمها، اشترط مستشفى رياق قبل إدخالها، وبكفالة طبيب القلب، دفع فارق الليلة العادية 180 دولاراً، وفارق ليلة العناية الفائقة 250 دولاراً. بعد وساطات واتصالات دفعنا في غرفة عادية بدل أربع ليال 26 مليوناً، قبل أن ننقلها إلى بيروت حيث بقيت أسبوعين قبل وفاتها، وقد بلغ فارق «التعاونية» 82 مليوناً، أي أننا دفعنا في أقلّ من شهر أكثر من 160 مليون ليرة، في حين أنني وشقيقي أستاذان متقاعدان من التعليم الثانوي الرسمي، ومجموع مدخولنا السنوي لا يتجاوز 80 مليون ليرة، أي أننا نحتاج إلى سنتين لتسديد ديون المستشفيات فقط».
يختصر الأستاذ المتقاعد سميح سابا الروايات بالقول: «بتنا نطلب الانتقال إلى رحمة ربنا لنرتاح من الذلّ على أبواب المستشفيات! أصبحنا شحّادين، نستجدي ثمن الدواء من الأولاد والأحفاد الذين يعملون في بلاد الاغتراب، ومن ليس عنده أحد في الخارج فما حيلته؟ يمنّنوننا بزيادة ضعفي الراتب الذي نهبوا 95% أساساً من قيمته، حتى هذه الزيادة الهزيلة خسرت 50% من قيمتها منذ إقرارها وحتى اليوم، نتيجة الارتفاع الجنوني لسعر الدولار».
بين الودائع والرواتب
وإذا كان هذا قدر كلّ موظف متقاعد، يضطر هو أو أحد أفراد عائلته لدخول مستشفى، فإن الوقوف على أبواب المصارف لا يقلّ إذلالاً. تشير الأستاذة المتقاعدة، بهية بعلبكي، إلى أن «المتقاعد مضطرّ لأن يقف تحت الشمس أو تحت المطر في صفوف طويلة أمام الـATM لكي يسحب القليل مما أحيل اليه. ودائع المتقاعدين مصادَرة من مصارف تتصرّف على كيفها، فهناك من يضع سقوفاً للسحب أقلّ من المعاش، وهناك من يمتنع عن دفع المعاشات بالدولار على أساس صيرفة؛ وهناك أيضاً من يجعل السحب من الصرّاف الآلي غير ممكن في أغلب الأحيان؛ وعلى المتقاعد أن يذهب من بيته إلى المصرف مرات عدة ليقبض راتبه التقاعدي».
تحدّد بعض المصارف سقف السحوبات باحتساب الرواتب كجزء من الوديعةورغم أن في حوزة الأستاذ المتقاعد محمد العنان بطاقتين: إحداهما للوديعة والثانية للراتب، إلا أن المصرف مصرّ على احتساب الرواتب «كجزء من حقنا من الوديعة عند تحديد سقف السحوبات، ما يعني أنه بدلاً من أن أكون قادراً على سحب 23 مليون ليرة في الشهر، يعطونني 12 مليون ليرة (11 مليوناً من الراتب ومليون من الوديعة فقط)». المطلوب، بحسب العنان، أن «يفصلوا حقنا من الوديعة عن حقنا بالراتب حتى لو كانت لدينا بطاقة واحدة، فكيف بالأحرى إذا كانت لدينا بطاقتان، فالراتب هو حق مكتسب ويجب أن نسحبه في أي وقت، ودفعة واحدة وليس له علاقة بالوديعة».
رئيس رابطة المتقاعدين في التعليم الأساسي الرسمي، غطاس مدوّر، يتحدث أيضاً عن تلاعب المصارف بالراتب ومنحة التعليم، رغم صدور قوانين تنص على دفعها كاملة ونقداً بالليرة اللبنانية، في حين يعمد بعضها إلى دفعها على شكل «شيكات». ويثير مدوّر روتين تأخير معاملات التقاعد، إذ إن أحد المدرسين تقاعد في شهر أيار الماضي، ولم يستحق راتبه التقاعدي حتى اليوم.
العلاقة مع الملاك
كيف هي علاقة الموظفين المتقاعدين مع موظفي الملاك؟
تجيب بعلبكي: «العلاقة ليست جيدة بين مجمل المتقاعدين وروابط موظفي القطاع العام، فالأخيرة لم تساند حق المعلمين المتقاعدين بتطبيق المادة 18، كما وردت في قانون سلسلة الرتب والرواتب، بل وقفت ضدهم ورضيت بمنع استفادة المعلمين الجدد ومن سيتقاعدون بعد إقرار السلسلة من الست درجات بسبب قبول قيادات هذه الروابط بأن تكون استثنائية. كذلك قصّرت في مواجهة ما كان يحضر من قضم مكتسبات نظام التقاعد لجهة تقليص عدد المنتفعين من ورثة المعاش التقاعدي، وخصوصاً البنات والزوجات، كما قبلت بمبدأ المساعدة الاجتماعية، بدلاً من تصحيح الرواتب، وألّا تكون في صلب الراتب، ما يضرب حقوق المتقاعدين الجدد، بينما فقدت المعاشات قيمتها».
وتلفت إلى أن «السلطة تتهاون بحقوق المتقاعدين وتستخفّ بهم، إذ شهدنا تأجيل دفع المعاش التقاعدي في موعده، بينما دفعت الرواتب في موعدها». يتحدث مدوّر عن المعاناة التي واجهتها الرابطة مع رابطة مدرسي الملاك، إذ «رفضت استقبالنا في مركزها وبقينا 5 سنوات نتنقّل بين منازل أعضاء الهيئة الإدارية وليس لدينا مركز شرعي نجتمع فيه، ومنهم من طالب بحل رابطتنا لأنهم يريدون أن تكون مطواعة لفئة سياسية معينة».
بعض الروابط لا تمثّلنا
وعمّا إذا كانت روابط المتقاعدين تمثلهم وتطالب بحقوقهم، ترى بعلبكي أن بعض الاتحادات التنسيقية وروابط المتقاعدين تكمل دور روابط التعليم المصادرة من السلطة، وهي متواجدة لضبط إيقاع المطالب وفق ما تسمح به المنظومة السياسية، وخصوصاً أن الكثير من أعضائها يهادنون السلطة، وإن أعلنوا غير ذلك، وهم يهلّلون لكلّ «مكرمة» منها وكأنها الإنجاز العظيم، سائلة: «أيّ إنجاز أن يعطونا 3 رواتب ليست في أساس الراتب، فيما ينبغي أن يعطونا 30 أضعاف المعاش لنحقق القيمة الشرائية السابقة لمعاشنا؟». وتشير إلى أن الروابط شهدت إلغاء متدحرجاً لدولة الرعاية الاجتماعية، وفقداناً للمكتسبات الاجتماعية الصحية، وتدهوراً كبيراً في تقديمات تعاونية الموظفين الاجتماعية والصحية، وانهياراً شبه كامل للقوة الشرائية للرواتب، وارتفاعاً جنونياً في سعر صرف الدولار.
من جهته، يشكو سابا من أنّ «من يدّعون تمثيلنا من روابط القطاع العام ومتقاعديه يقفون متفرّجين لارتباطهم وتبعيتهم لسلطة الفساد، وهم يهلّلون لزيادات وهمية على الرواتب يأكلها التضخم بين ليلة وضحاها، كما أنهم يوافقون على عدم إقرار القوانين التي تحافظ على قيمة الرواتب وحصول أكثرية المتقاعدين على أموالهم المحتجزة في المصارف، ومنها قانون الكابيتال كونترول واستعادة الأموال المنهوبة».
المجلس التنسيقي
ووفق بعلبكي، المواجهة التقليدية المهادنة لهذه السلطة الفاسدة والناهبة لم تجد نفعاً من قبل، ولم يعد هناك خلاص اليوم بالدبلوماسية، إنما بنزول كلّ المتضررين إلى الشارع.