/ جورج علم /
زاد صندوق النقد الدولي من الشرخ الوطني، بين فريق يؤمن بأنه المسار الوحيد المتاح للخروج من النفق، وفريق يعارضه بقوة، ويرى فيه صورة “المفوّض السامي” الذي سيكبّل البلد بشروطه، ويضعه في حال انتداب مقنّع.
يرى أصحاب النظريّة الأولى، أن كلّ ما يجري في المربّع اللبناني يؤكد يوماً بعد يوم الحاجة إلى الصندوق، ومساره المالي ـ الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ التنموي، بعدما هُجّرت الرساميل إلى الخارج تحت مظلّة انتفاضة 17 تشرين، وما تلاها، ومعاندة المسؤولين باستعادتها، وانهيار القطاع المالي والمصرفي تحت مظلّة واسعة من النقاش، وتقاذف التهم ما بين الحكومة، وحاكميّة مصرف لبنان، وجمعيّة المصارف، ووزارة المال، ولجنة المال والموازنة، والمجلس النيابي، والقضاء المالي، والهيئات الرقابيّة، وليس ـ حتى الآن ـ من وقف للنزف، ولا من أثر للمعالجات الجديّة.
ويرى أصحاب النظريّة الثانية أن لبنان منهوب، ولديه الكثير من القدرات، وعنده الوفير من الإمكانات، إذا ما نُظّمت بشفافيّة، وضمن خريطة طريق واضحة المعالم، كفيلة بإنهاضه من كبوته، وفي غضون سنوات معدودة، من دون الحاجة إلى الصندوق، وشروطه الملزمة.
وليس هذا الإنقسام الحاد بجديد، وعمره من عمر الأزمة الاقتصاديّة المتفاقمة منذ سنوات. الجديد أن الصندوق تحوّل إلى قوّة ضغط في الاستحقاق الرئاسي، إلى ناخب كبير متداول لدى الدول صاحبة النفوذ والتأثير، التي ترى أن لبنان بحاجة إلى خبير إقتصادي في القصر الجمهوري، يعرف كيف يتعاطى مع صندوق النقد، والدول المانحة. وبحاجة إلى رئيس حكومة توأم لرئيس الجمهوريّة، على رأس فريق وزاري من الاختصاصيين، أصحاب التجارب الناجحة، يشكّلون معاً فريقاً إنقاذياً منسجماً، ملتزماً بتنفيذ خطة متكاملة العناصر، وواضحة الأهداف.
والجديد، أن صندوق النقد، ووراءه الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي، لديهم وثائق تؤكد حجم المبالغ التي هُرّبت من لبنان إلى الخارج ما قبل إنتفاضة 17 تشرين، ولغاية اليوم، ومعرفة أصحابها، وأسماء المتورطين في الفساد، والأساليب غير القانونية وغير الأخلاقيّة التي اعتمدوها لإفقار الشعب اللبناني، ونهب أموال المودعين. وبالتالي، عندما رفعوا البطاقة الصفراء في وجوههم، لم يتوانوا عن ارتكاب المخالفات، بل استمروا، وأمعنوا، غير مبالين بالتهديدات الخارجيّة، إلى أن وصلت الأمور إلى مفترق: إما عقوبات رادعة، أو تغيير من النوع الذي دعا إليه الرئيس إيمانويل ماكرون، بحيث لا يكون لهذه الطبقة السياسيّة أي دور في المستقبل.
ومن الجديد أيضاً، أن الولايات المتحدة والدول الصناعيّة الكبرى المؤثّرة بسياسة الصندوق، والمنقسمة على نفسها بين من يتعاطى مع “حزب الله” كـ”منظمة إرهابيّة” وبين من لا يزال يقيم جسور تواصل وحوار معه، متفاهمون ومتضامنون على أن الحزب له الدور المتاح في التعايش مع سياسة الصندوق، لكن لن يكون له الدور التفضيلي، أو التعطيلي، وبالتالي عليه أن يتكيّف مع الواقع الجديد، وقد خطا خطوة معنويّة لا بأس بها عندما وقف وراء الدولة في عملية ترسيم الحدود البحريّة، وبقي عليه أن يكمل هذه الخطوة ويقف وراء الدولة في القرارات والخيارات التي قد تقدم عليها، ويكون عنصراً إيجابيّاً مسانداً، لا عنصر تعطيل ورفض.
ويبدي الحزب من جانبه سياسة ملتبسة، إذ أنه يطالب بالحوار مع سائر المكونات للتفاهم على رئيس صنع في لبنان، لكنه يعرف بالمقابل مدى الإستحالة لسببين جوهريّين:
الأول، يريد الحوار، ويريد رئيساً “لا يطعن المقاومة، وسلاحها، وخياراتها”، وهذا ما تعارضه مكونات أخرى، لغاية اليوم.
الثاني، كما للحزب ارتباط بإيران، كذلك سائر المكونات الأخرى لها ارتباطات مع هذه الدولة أو تلك. ولهذه الدول حسابات جارية مع طهران في الكثير من المواقع، وحيال الكثير من الملفات. وهذا ما يترك علامات استفهام حول الاستحقاق، وشكل التسوية التي لا بد منها في نهاية المطاف.
وإلى جانب هاتين الملاحظتين، هناك متغيرات بدأت تتسلل لتأخذ مساحة من النقاش داخل غرف مغلقة، وفي الطليعة كلام عن أن “حزب الله”، متكئ على الثنائي الشيعي والصمت السنّي والانكفاء الدرزي، يخوض تجربة إدارة الدولة من دون الحاجة إلى رئيس للجمهورية، وقدّم “بروفا” عندما أوقف البلد على رجل واحدة لنيّف وسنتين من دون رئيس. واليوم يحاول أن يعيد التجربة، ويراهن على فراغ لأمد طويل بهدف إيصال الرئيس الذي يريد، من دون حصول “منغصات” كبرى تسيء إلى وحدة الكيان والنظام.
وهناك كلام عن أن “القرض الحسن” بألف خير، فيما القطاع المصرفي الذي كان يشكّل الحصن المنيع للنظام المالي ـ الاقتصادي الحر، بدأ ينهار حجراً تلو الحجر، ومدماكاً إثر مدماك، نتيجة الإنسداد السياسي الحاصل جراء الخلل في التوازنات، مع الضرر البالغ الذي أصاب غالبية الشعب اللبناني، وسائر المكونات. أضف الى ذلك، أن الحزب الذي يعاني من العقوبات، ومن سياسات التجفيف المالي التي تمارسها الدول الكبرى بهدف إضعاف دوره وحضوره على الساحتين الداخليّة والإقليمية، يحاول أن يواجه بكل ما أوتي من قوة، أي إمكانية تفضي إلى “إنتداب” صندوق النقد الدولي على لبنان، من خلال الاستحقاق الرئاسي، خوفاً على حضوره، ومصالحه التي ستصبح تحت مجهر القوى الدولية، إذا ما تمكن “الصندوق” من أن يكون الحاكم الجديد للبنان، والمتحكّم بموارده، ومقدراته.